يتعقد المشهد السياسي في الشرق الأوسط ويزداد يوماً بعد يوم توتراً وخطورة. وأكثر الدول الموضوعة على صفيح ساخن تنتمي إلى عالمنا العربي الذي يعاني من فراغ سياسي كبير، وتدهور هائل في قدرته على التأثير والفعل في ساحته الإقليمية. وهذا ما سمح للدويلات والجيوش الميليشياوية الموالية للخارج أن تتغول على سيادة عدد من دوله.

يدور على تعبئة هذا الفراغ العربي، وعلى اقتسام النفوذ والثروات والحصص فيه، صراع إقليمي ودولي حاد ليس له مثيل من قبل. ومن أهم اللاعبين الإقليميين النشِطين بالإضافة إلى اللاعب الإسرائيلي الحاضر منذ عام 1948، إيران ومشروعها التوسعي الكبير عبر العراق وسوريا ولبنان باتجاه ساحل المتوسط، وتركيا التي تعمل ما بوسعها لإقامة جسور عسكرية وغير عسكرية في كل من سوريا والعراق وليبيا واليمن وشرق المتوسط عموماً. وربما يمكن عدّ روسيا أحد اللاعبين الإقليميين في الشرق الأوسط بالإضافة إلى كونها لاعبًا دوليًا، وهي التي كان قياصرتها يحلمون منذ القرن التاسع عشر بوصولهم إلى المياه الدافئة. وبطبيعة الحال فإن هذه الدول الإقليمية تتملكها طموحات إمبراطورية وتحلم باسترجاع أمجادها التاريخية والقومية الغابرة في المنطقة. ومن جانب آخر، فإن الدول الكبرى وإن كانت لا تفكر بإعادة صيغتها الاستعمارية القديمة إلى الوجود، لكنها لا تقبل أن تتنازل عن مصالحها في هذه المنطقة من العالم التي تتوسط بموقعها الجيوسياسي القارات الخمس، وتزخر بثروات هائلة من النفط والغاز والممرات المائية التي تصل بين سائر المحيطات. وهنا لا بد من القول إن حماية إسرائيل تبقى ركناً حاضراً ودائماً في سياسات وتحركات كل الدول الكبرى وعلى وجه الخصوص، الولايات المتحدة الأميركية.

إن الدول العربية الأكثر استهدافاً من التمدد الإقليمي والتدخلات العسكرية الخارجية الراهنة، هي التي وصلت إلى درجة غير مسبوقة من عدم القدرة والفشل السياسي والاجتماعي، فاستغل المتدخلون ومن مواقع متناقضة ثورات شعوب هذه البلدان على أنظمتها التسلطية القمعية لتكون فرصة لتدخلهم تحت يافطة محاربة التطرف والإرهاب الذي كان لهم الدور الأكبر في زرعه في صفوف الثورات السلمية. ولم تكن لتطفو على السطح هذه الغزوة بحلتها الاستعمارية الجديدة، لولا فشل هذه البلدان، منذ استقلالها إلى الآن، في بلورة هوياتها الوطنية الضرورية لتكريس مفهوم الدولة وبنائها، ولولا غياب المشروع العربي العقلاني والموضوعي الذي كان يمكن أن يؤسس لقيام لاعب استراتيجي عربي مؤثر وفعال قادرا على مواجهة الطامعين الإقليميين والدوليين. إن المشروع “العربي الرومانسي” الذي انطلق في منتصف خمسينيات القرن الماضي قفز آنذاك إلى حلم الوحدة العربية قبل أن يكتمل تشكيل الهوية الوطنية العابرة للدين والمذهب والطائفة والإثنية في داخل الدول القطرية التي تكونت بعد سقوط السلطنة العثمانية.

إن عدم إيلاء النخب السياسية العربية اهتمامها الكافي لتشكيل الهويات الوطنية والمجتمعات المدنية، وعدم تكريسها مفهوم الدولة الحديثة المتمايزة عن مفهومي السلطة والنظام، لم يُخَلّفا غير منظومات سلطوية معادية لشعوبها، ومجتمعات تحت مدنية، مترعة بالنزوعات الأهلية والطائفية والمذهبية والإثنية؛ فمعظم النخب السياسية العربية الحاكمة وغير الحاكمة لم تشتغل على بناء الدول القائمة، وجمع مكوناتها في وطنيات موحدة متماسكة، إنما بقيت تعمل خلال سبعة عقود خارج هذه الدول وفوقها عبر رفع شعارات وأهداف وهمية غير واقعية. لا تزال الأقطار العربية إلى الآن محافظة على تفككها الأهلي، فاقدة لهويتها الوطنية ودولها المدنية، تتحكم بها ميليشيات تقاد من خارج حدودها. والمفارقة أن ظاهرة الدول الفاشلة في عالمنا العربي، مرئية بوضوح أكثر في الأقطار العربية التي عانت من الانقلابات العسكرية المتوالية والتي رفعت الكثير من الشعارات البراقة والفضفاضة حول التحرر والوحدة والاشتراكية والتقدمية.