مُناف الفتيّح

لا تعنينا كسوريين تفاصيل العبث السياسي الدولي بالمسألة الكردية بقدر ما يعنينا عبث الأوصياء عليها ممن سبق أن زرعهم نظام دمشق عوداً أعوجاً فلم يعد يستقيم له ظلٌّ مهما تغيرت أيدي الرعاة الإقليميين و الدوليين و مهما انتفخت فقاعتهم التي لا بد أن تنفجر يوماً و تتبخر.
تشترط التسوية السياسية مقدماتٍ أولها الاعتراف والمعرفة و ثانيها شرعية التمثيل و مشروعية الفعل السياسي، فماذا في جعبتنا كعربٍ و كرد ليمكننا إنتاج مشروع تسويةٍ عادلةٍ و دائمة ؟
تقدم هذه القصة جوابها من وحي تجربةٍ في ثمانينيات القرن الماضي بين طلابٍ في كلية الهندسة المعمارية في حلب مع زميلٍ لهم -صادف أنه كردي- لاحظوا انكماشه و حذره الشديد تجاههم غير أن تعاملهم معه كان ودّياً و طبيعياً و استمر كذلك حتى اطمأن إليهم و ارتقت العلاقة إلى درجة الصداقة فسألوه مرةً عن غرابة سلوكه معهم في البداية وهنا باح لهم بمكنونات صدره ؛ حكى لهم كيف نشأ على كراهية العرب واعتبارهم جميعاً منحطين و عملاء للمخابرات و كيف ربتهم ميلشيا حزب العمال على التعامل مع العرب كأعداء و عدم الثقة بهم. و استطرد الرجل في سرد مأساة الكرد أنفسهم مع هذه العصبة وسلوكها المستبد – بتفويضٍ من نظام الأسد– و كيف كانت تحكم القرى و البلدات الكردية و تسوق الشباب غصباً لتجنيدهم معها.
تفصح هذه الحكاية عن إشكاليتين لا يمكن تناول المسألة دون وقفةٍ عليهما. تتعلق الأولى بوصايةٍ من ذات الطبيعة و المنهج مفروضةٍ على الطرفين العربي و الكردي فلا حزب البعث ولا رديفه الأوجلاني يملكان حق تمثيل الشريحة الاجتماعية المَعنية و كلاهما واجهةٌ سياسية مصطنعة؛ لذا فالحديث عن كتلتين عربية و كردية كاصطفافٍ متقابل أسّس لجدلٍ عقيم و مسارٍ منحرفٍ لن يفضي إلى أي عملٍ بنّاء. يعني هذا غياب قوى سياسية جديرة بصفاتها التمثيلية ما يتيح مصادرة الإرادة الوطنية و ارتجال حلولٍ وهمية تزيد الواقع المأزوم تأزماً، كما يفسر حرمان الطرفين من فرصة الالتقاء على المشتركات الوطنية و العمل عليها.
ثانية الإشكاليتين جهل الطرفين – كجماعتين – ببعضهما فلا نحن نعرف الكرد و لا هم يعرفوننا كما يجب ، و من هذه البداية ندرك أول مواطن الخلل في تعريف العلاقة بين هويتين تعاني كل منهما أصلاً من التباسٍ في رؤيتها لذاتها فضلاً عن علاقتها بالآخر.
رغم انعدام المدخل السياسي السليم و تهافت المسار القسري الحاصل نصعد درجةً أخرى في تفكيك عقد المسألة باتجاه تحديد الشكل السياسي لعلاقة الطرفين حيث تبرز أطروحة الفيدرالية و لا ضير في مقاربة موضوعية لها في اتجاهات ثلاث: اجتماعي – قانوني – سياسي. كمقدمة لفهم مسوغات الحديث عن حق تقرير المصير أو الفيدرالية و هل هذا طرح متماسك ينطلق من داخل الظاهرة أم تحليل ميكانيكي من الخارج إلى الداخل.
لنبدأ بالأهم وهو الواقع الاجتماعي الذي يتسّم بعلامةٍ فارقة في النسيج الاجتماعي الكردي – السوري و خصوصياته المتمايزة عن سواها من أشكال الوجود الكردي في دول الجوار؛ إذ لا توجد كتلة إثنية صلبة متصلة جغرافياً كما أنها لا تشكل أغلبية حتى في الإقليم المستهدف بالفدرلة. إذا كان الكيان الاجتماعي هو “وحدة التحليل الأولى” فإن أدلجة المسألة بمعزلٍ عن صيرورتها تلك لن تفضي إلى قراءةٍ سياسية ناضجة بل إلى قراءةٍ ملوّنةٍ محكومةٍ بتصوّرٍ غائيٍّ مُسبق.
في البعد القانوني لا يخضع مفهوم الفيدرالية للهوى و الرغبات بل لتحديد واضحٍ في العلوم السياسية فالنظام الفيدرالي يحدد العلاقة بين مركز السلطة و أطرافها بصيغةٍ تُبقي على ملفات الخارجية و الدفاع و المالية بيد السلطة المركزية، أما النموذج المستورد من تجربة إقليم كردستان العراق فلا يلتزم بأساسيات الفيدرالية. في هكذا سياقٍ يصدر الفعل السياسي عن عقلٍ ديماغوجيّ محكومٍ بمسبقاتٍ لم تخض أي تفاعلٍ مع الواقع، عندها “تقضي الذات المنتفخة على نفسها عندما تلغي السياسة، أي عندما تلغي العلاقة السوية مع الآخرين. يأتي هذا بسبب إلغاء العلاقة السوية (الجدلية بين الذات والموضوع). تسيطر الذات على المعرفة. يصير الموضوع والموضوعية تحصيل حاصل، يصيران مجرد مشتقين للرغبات” (الفضل شلق – مقال العلاقة الأحادية بين الذات و الموضوع)
في هذا السياق غير السويّ، يأتي مشروع “روجافا” ضرباً من العبث لا يصعب على أبسط تحليلٍ نقديّ محايد أن يضع يده على غايته البادية حتى في الاسم فالربط بين أوصال تلك الكردستان الكبرى التي بنتها الأيديولوجيا ولم يبنها التاريخ يفصح عن إسقاطٍ إيديولوجيّ من خارج الظاهرة و دائرة اجتماعها السياسي. يجب الانطلاق في أي طرحٍ من خصوصيات كل حالة فإذا كانت الفيدرالية حلاً ملائماً في العراق لا يعني أن تكون كذلك تلقائياً في المشهد السوري، و إذا جاز التفكير في كردستان افتراضية فليكن ذلك في حدود الواقع إذا كانت المواطنة هي الهدف / الموضوع وليس أوهام “الذات المنتفخة”. من جهةٍ أخرى يُفصح تقديم الفدرلة على الدمقرطة كشرطٍ لأي حلول تحظى بشرعية دستورية و تفويضٍ شعبي ، يفصح هذا النهج مرةً أخرى عن غياب الصيرورة و سبق الأدلجة و بالتالي عن بنيةٍ مستبدة تستبدل وباءً بوباءٍ و لا تقدم أي بديلٍ يُعوّل عليه.
الأخطر في عمق القضية الكردية هو توظيفها أداةً سياسية في مشروع قديم متجدد لتجنيد أقليات المشرق العربي في مشروع تفكيكه و تصديع بنيته السوسيو ثقافية ومنع أي أملٍ في نهضةٍ للمنطقة في عمومها و لكن للعرب خصوصاً؛ لأن ديمومة مشروع الهيمنة عليها رهنٌ بتحطيم هذه الأغلبية. حدث هذا من قبل مع أقليات أخرى ويجري الآن توظيف شيعة المنطقة و استقطاب فريقٍ من الكرد لاستكمال أدواته و إتمام غاياته.
إن إعادة بناء المسألة الكردية في مجالها الوطني بمنأى عن قبضة هذين البعثين العابثين، و بمعزلٍ عن تجاذبات المصالح الدولية – إلا ما هو مشروعٌ منها و متساوقٌ مع حقوقنا و مصالحنا – هو وحده ما يضمن حلاً تاريخياً عادلاً و قابلاً للتطبيق و الديمومة، و إلا ستبقى المسألة الكردية رهينة “بعثين” مستبدين كلاهما أعوجٌ، الأصلُ و رديفه، العودُ و ظله.