“المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين

    في آخر ما توصّلت إليه فنون الخِداع، تلك “القِمّة،القُمّة” الافتراضية الروسية السورية التي بحث فيها بوتن وبشار ما سُمّي ” المؤتمر الدولي حول إعادة اللاجئين “، ليتكاذبا علناً، ولكلّ منهما دوافعه وغاياته. فأمّا أن يدعو القاتل اللاجئين للعودة، لأن وطنهم يحتاجهم ولا يستغني عنهم، فهذه نهاية المهازل بعد مليون شهيد ومئات آلاف المعتقلين والمغيّبين قسراً، وبعد كل الدمار الذي أوقعه بحقّ شعب أراد الحرية والكرامة والديمقراطية، ورفض الاستبداد والعبودية. وأمّا أن يدعو داعم القاتل اللاجئين للعودة مساهمةً في الإعمار، فهذا منتهى السخرية، بينما الدماء لمّا تجفّ بعد في إدلب بفعل طائراته، والدمار لمّا يتوقف، والقتل والتشريد يستمرّان بفِعله وفِعل مَن يدعم، والاقتتال والاغتيال في الجنوب تتصاعد تفاعلاتهما لتهدم بنيان “المصالحات” الهشّ، وتتصارع الميليشيات بمختلف انتماءاتها، بينما تعيش الجزيرة السورية صراعاً مع قوى احتلال تريد فرض أمر واقع، تستغلّه في فرض سياستها والمساومة عليها لأهداف لن تكون نهاياتها لمصلحة الوطنية السورية. 

إنها مفارقة قلّ نظيرها! أن تعمل روسيا لعودة اللاجئين السوريين بينما يسعى السوريون رهائن النظام للجوء إلى أي مكان ينقذهم ممّا هم فيه! وتغلّف دعوتها بالإنسانية حيناً، ومشاطرة دول اللجوء معاناتها، جاهدة في حثّها على إعادة اللاجئين ومساندة نُبل مساعيها! 

إنها-روسيا- تكرّر ألاعيبها في سياسة خلط الأوراق المنتجة للجنة الدستورية، أهمّ مخرجات سوتشي، وتناور في سرقة الزمن لإعادة ترتيب أولويّات مصالحها مع تغيّر الظرف السوري والإقليمي والدولي، بعد أن حقّق لها أستانا توافقاً وتواطؤاً إقليمياً ودولياً، خلقت من خلاله واقعاً جديداً على الأرض دفعها –قبل النظام- لإعلان النصر، وتجاوز أولويّة الانتقال السياسي بإنهاء مناطق خفض التصعيد -أهمّ مخرجات أستانا- بفرض اللجنة الدستورية تحت رعاية الأمم المتحدة، فتوهّمت سيادتها في الملفّ السوري وإطلاق يدها في تفاصيله حتى النهاية، لتسوّق سلعة “تعويم” النظام الأسدي و”شرعنة” استمراريّته التي طال “الترويج” لها، على الرغم من رفضها، وتُوهِم القوى الدولية أنها أنجزت هزيمة “الإرهاب” الذي كان “سبباً” للجوء ملايين السوريين إلى عشرات الدول.

ما انفكّت روسيا تمارس سياسة “الرقص التجريبي” عند تعارُض رغباتها؛ أو تناقُض إرادتها مع إرادات الآخرين استكشافاً لمخارج أقلّ كلفة وأكثر كسباً، باحثة عن قفلة تقنع المتصارعين بإسدال ستار أحد فصول القضية السورية، أو جعله جسراً في “تكتيك المماطلة والعرقلة” المؤسّس لسياسة النظام الأسدي، وصولاً إلى خطوة جديدة تساهم في قضم مزيد من المساحة الجغرافية والسياسية، لتعمل مجدّداً على تحريك الوضع السياسي عبر رسائل قصف وحشيّ يستهدف إدلب وريفها، أو إشعال مناوشات بين طرفين متصارعَين في ساحة تعجّ بالمتناقضات، في الوقت الذي يجب العمل فيه على إنضاج الظروف المواتية لحلّ سياسي يستدعي بدوره إعادة الإعمار، وتهيئة البيئة المناسبة لعودة اللاجئين الطوعية.

لم تعد بهلوانيّات بوتن تنطلي على العالم، ولم يعد لتخرّصّات النظام رواج لدى مواليه قبل معارضيه، ولدى حلفائه قبل أعدائه، وليس أدلّ على ذلك أكثر ما حصل في الإحاطة الأخيرة لبيدرسون المبعوث الدولي في مجلس الأمن، حيث كشف العالم زيف الادّعاء، وتهافت الحجج وسيولة الأهداف التي أرادتها روسيا، وفي مقدّمتها خلق التناقضات في الصف الداعي للتغيير، والداعم للعملية السياسية وفق قرار مجلس الأمن 2254، والمنتقد لمحاولات تعطيل اللجنة الدستورية التي يُفترض إنهاء أعمالها، لتباشر العملية السياسية بدستور جديد أو معدّل قبل منتصَف 2021؛ حيث استحقاق انتخاب رئاسة الدولة، وهنا مربط الفرس فيما تهدف إليه روسيا في مسعاها “النبيل”، التجديد لبشار الأسد وفق دستور 2012، فتضمن استثماراً مستقبلياً مجانياً في مراهنتها على حدوث متغيّرات إقليمية ودولية.

كلّ ذلك يريد بوتن تحقيقه في ظلّ معاناة يومية يعيشها السوريون في الداخل بدءاً من رغيف الخبز، وليس انتهاء بصحتهم، ودفع “كورونا” عن الفتك بهم، وكأن السوريين يعيشون في كوكب آخر، وكأنهم مغيّبون عن العالم، أو أن العالم سيُدهش لتلك الفانتازيا الإعلامية الافتراضية الهادفة لصرف الانتباه عن الانهيار الاقتصادي الواقع بفعل العقوبات من جهة، وبأفعال النهب والسلب وابتزاز ورهن مقدّرات البلاد لقوى الاحتلال الروسي والإيراني من جهة أخرى، في محاولة لتعويم نظام متوحّش غارق في الفوضى والفساد.   

    عودة اللاجئين تتحقّق بتنفيذ قرارات مجلس الأمن التي نصّت على الانتقال السياسي أوّلاً، وإيجاد بيئة آمنة، يتمكّن اللاجئون من العودة الطوعية وممارسة حقّهم في العيش بحرية وكرامة، وفي ظل دولة يحكمها دستور أقرّه السوريون، وليس دستوراً يضمن استثمارات دول محتلّة، وسلطة تستمدّ شرعيّتها من انتخابات حرّة نزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة، يشارك فيها السوريون في كل مكان.