في الوقت الذي أشار فيه كل من ترامب وماكرون إلى نيتهما عدم تغيير النظام في دمشق، ينبغي على كلا الزعيمين أن يتذكر تكلفة بقاء الأسد في السلطة.

تقول صحيفة “فورين بوليسي” الأميركية إنه ليس هناك شك في وجود سوريا ضمن أجندة لقاء الرئيسين الأخير في باريس، فسوريا كانت ذات مرة تخضع للانتداب الفرنسي كدولة تعتبرها باريس دوماً مدخلاً لتحقيق نفوذها في الشرق الأوسط.

لكن أُثيرت أسئلة لا حصر لها لم تجرِ الإجابة عنها منذ تنصيب ماكرون، تدور هذه الأسئلة حول ما سيقود سياسته في الشرق الأوسط: هل هي القيم أم السياسة الواقعية؟ وبالطبع، يمكن أن نقول نفس الشيء عن ترامب. قصف الرئيس الأميركي قوات بشار الأسد في أبريل/نيسان لأن الأسد كان يقتل “الأطفال”، لكن أوضحت وزيرة خارجيته أن إدارة ترامب كانت مستعدة لترك روسيا تحدد مصير الأسد، بعيداً عن قولها إن الأسد يمكن أن يبقى في السلطة.

ومن ناحيته، حذر ماكرون من أن استخدام سوريا للأسلحة الكيماوية يُعتبر خطاً أحمر بالنسبة لفرنسا. لكنه أخبر صحيفة Le Figaro مؤخراً بأن الأسد بات عدواً للشعب السوري، وليس لفرنسا، مُظهراً أنه غير مهتم بالدمار الذي حلّ بالدولة على يد الأسد، وأظهر اهتماماً فقط بتداعيات الصراع في فرنسا.

منذ 25 عاماً كتب عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل سورا سلسلة من المقالات التي سلطت الضوء على ما سمّاه “الدولة الوحشية” “L’Etat de barbarie” المتأصلة في حكم الأسد. وعمل على تفصيل وحشيته من خلال قمع انتفاض الإسلاميين في مطلع الثمانينات من القرن العشرين، بالإضافة إلى عمليات الإعدام لمئات القرويين وإطلاق الرصاص على مئات المعتقلين داخل السجون وقصف المدن بشكل عشوائي.

كتب قائلاً: “إن انهيار الشرعية السياسية للنظام تُترجم على أرض الواقع إلى إعادة تفعيل لأشكال الشرعية التي سبقت الهياكل السياسية”. وبمعنى آخر، ساد التضامن بين الجماعات العرقية والطائفية، بدلاً من المنظمات الاجتماعية السياسية. وآلت النظرة السياسية للرئيس حافظ الأسد كي تتشكل فقط من “ربط مصير العلويين بمصيره الشخصي”.

وقد دفع سورا تكلفة باهظة على عمله هذا، فقد اختُطِف في بيروت عام 1985، في ذروة الحرب الأهلية، على يد حركة الجهاد الإسلامية، وهي إحدى الجماعات المرتبطة بسوريا وإيران. وأُعدم وهو في الأسر، وعُثر فقط على جثته وأُعيدت إلى فرنسا عام 2005. وفي الوقت الذي تطرق فيه ترامب وماكرون إلى إمكانية التوافق مع حكم الأسد في دمشق، مازالت كتاباته حذرة بشأن تكاليف هذا الاتجاه.

حل بشار الأسد ذات مرة ضيفاً على الرئيس الفرنسي في احتفالات يوم الباستيل. استقبل نيكولا ساركوزي، المتحمس للقيام بعكس ما قام به سلفه، ففي عام 2008 أصبح الزعيم السوري منبوذاً دولياً على يد كل من جاك شيراك وجورج دبليو بوش.

لكن رعاية ساركوزي أبرزت تحولاً إلى نمط سابق. إذا كانت الكأس المقدسة بالنسبة للدبلوماسيين الدوليين تتمثل في تحقيق السلام الإقليمي في الشرق الأوسط، فإن السلام بين سوريا وإسرائيل يعد الخطوة الأولى في سبيل ذلك. وكما قال هنري كيسنجر ذات مرة: “لا يمكن أن تخوض حرباً في الشرق الأوسط دون مصر ولا يمكنك إقامة السلام دون سوريا”. إن هذه الجمل البسيطة جعلت العديد من الدبلوماسيين يتوجهون إلى دمشق في محاولة يائسة لإقناع والد بشار، الرئيس حافظ الأسد، للتوقيع على اتفاقيات سلام متعددة. ولم يجرِ هذا التوقيع أبداً.

 

بداية العزلة

في بادئ الأمر، كان الأمل كبيراً في بشار الذي استمر في المناداة بالسلام ووعد بالإصلاحات الداخلية، وهي الوعود التي بدت جيدة بشكل كافٍ، وجعلت الجميع يعود على أمل أن الزيارة التالية ستشهد توقيع الاتفاقية.

وبدأ انعزال الأسد عندما اتُّهِم نظامه بالتخطيط لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في حادث هائل لانفجار شاحنة مفخخة بجانب البحر في بيروت في 14 فبراير/شباط 2005. وأعقب ذلك مظاهرات كبيرة في لبنان تنادي بإنهاء الاحتلال السوري الذي استمر 30 عاماً لبلادهم. وفي ظل قيادة بوش وشيراك، الأصدقاء المقربين من الحريري، للقضية، نبذ المجتمع الدولي الأسد وأجبر قواته التي كان عددها يصل إلى 15 ألف عنصر على الانسحاب من البلاد التي تعتبرها أسرة الأسد جزءاً من سوريا.

وأنهت الدعوة التي وجّهها ساركوزي عام 2008 إلى “الحاكم الذي يتصرف بشكل جيد” على حد وصف Le Monde سنوات العزل الطويلة للأسد، وهي تلك الفترة التي كُتب فيها نعيه السياسي، وسخر المقربون من النظام في دمشق بصوت خافت متسائلين عمن يمكنه إطفاء الأنوار للخروج من البلاد.

أما عن الشيء الذي حفّز ساركوزي فيتمثل في اعتقاده بأنه على عكس سلفه، يمكنه تشكيل علاقة مختلفة مع الأسد، وأن شخصيته وذكاءه يمكن أن يقنعا حاكم دمشق بأن يغير أفكاره. (ويمكن أن نقول إن عامل الثقة بالنفس ذاته كان دافع وزير الخارجية جون كيري، آخر من فقدوا الثقة بالأسد، بعد أن بدأت قواته في إطلاق الرصاص على المتظاهرين عام 2011).

ويمكن لأحدهم أن يتوقع نهجاً بديلاً للأحداث إن لم يعد ساركوزي الأسد إلى الساحة في عام 2008، وهي تلك الفترة التي لم يتوقف فيها الضغط وكان يتحتم على الأسد الوفاء بوعوده الغامضة للإصلاح. وكان من الممكن أن تزداد المعارضة في وقت سابق لعام 2011، ولكنها لم تكن لتحظى بنفس الاستجابة القاسية من قائد أُجبر بالفعل على الخضوع. خلال تلك السيناريوهات، كان من الممكن أن تبقى سوريا دون مساس. لكن، لن نعرف مطلقاً.

إلا أنه في الوقت الحالي، من الجدير بالملاحظة المسار الذي يحدده ماكرون لسوريا والمنطقة. لم يعد السلام مع إسرائيل أحد مطالب فرنسا من سوريا أو حتى الاعتراض على تحالفها مع إيران. وعلى أي حال، لا يمكن للأسد أن يفي بأيٍ من هذه المطالب. ومن المفهوم أن تركيز ماكرون ينصب على مكافحة الإرهاب ووقف تدفق الجهاديين من سوريا إلى أوروبا.

وفي حواره مع Le Figaro، تحدث ماكرون عن نقطتين رئيسيتين بخصوص سوريا. تتمثل النقطة الأولى في توضيحه أن الأسد ليس عدواً لفرنسا. أما النقطة الأخرى فتعلقت بتوضيح موقفه من مستقبل الأسد. وأوضح قوله ذات مرة إنه لا يوجد حل للصراع بسوريا في ظل وجود الأسد بالسلطة “لم أقل مطلقاً إن غياب بشار شرط رئيسي لكل شيء؛ لأنه حتى الآن لم يقدم لي أي شخص، خليفته الشرعي”.

لكن فرنسا على دراية كاملة بأنه ثمة ثمن للإبقاء على الأسد في السلطة. ففي عام 1981، قام العملاء المتهمون بالعمل لصالح دوائر المخابرات السورية، باغتيال لويس ديلامار، السفير الفرنسي في لبنان، في وضح النهار ببيروت. وفي 1983 نُسب الهجومان على قوات البحرية الأميركية وعلى قوات المظلات الفرنسية في بيروت إلى حركة الجهاد الإسلامية (وهي النسخة الأولى من حزب الله)، المتصلة بإيران وسوريا. وفي منتصف الثمانينات من القرن العشرين عانت باريس من سلسلة من الهجمات الإرهابية التي راح ضحيتها العشرات وكانت الأحداث مرتبطة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر بجماعات متصلة بسوريا.

قد يبدو ذلك تاريخاً قديماً، لكن نظام الأسد لجأ إلى بعض التهديدات المستترة ضد الغرب في الآونة الأخيرة كذلك. حذر رجل الأعمال رامي مخلوف، ابن خال الأسد، في حوار مع صحيفة New York Times: “لا يضمن أحد ما سيحدث بعد ذلك، لو حدث شيء لهذا النظام لا قدر الله.. يجب أن يعرفوا أننا حين نعاني، فلن نعاني وحدنا”.

في بداية الثورة السورية، هدد مفتي سوريا بإرسال انتحاريين إلى أوروبا إذا تعرضت سوريا لهجوم. ليس هناك ما يشير إلى ارتباط النظام السوري بأي شكل بالهجمات التي حدثت مؤخراً في أوروبا، إلا أن العديد من المفكرين الفرنسيين والسوريين واللبنانيين أشاروا في خطاب علني موجّه إلى ماكرون بأن الأسد يساعد على خلق بيئة يمكن للجماعات المتطرفة والجهاديين أن يحيوا في ظلها. إن إعادة الأسد إلى الساحة مرة أخرى تؤخر من الحل المستدام للمشكلة التي وصلت في الوقت الحالي إلى شواطئ أوروبا.

كان التصريح الثاني الذي أدلى به ماكرون فيما يتعلق بالشرعية ومستقبل الأسد مزعجاً كذلك. فعلى الرغم من البيانات الماضية الصادرة عن زعماء العالم، ومن ضمنهم فرانسوا هولاند وباراك أوباما، بعدم وجود مكان للأسد في مستقبل سوريا، فلم ينص أي بيان صادر بشأن محادثات السلام في سوريا إطلاقاً على أن رحيل الأسد يمثل شرطاً أساسياً في الحل. وفي حين أثارت كلمات ماكرون قلق العديد من الأشخاص في المعارضة، فإن كلماته لا تتعارض بالضرورة مع النهج الحالي في محادثات السلام السورية.

وبينما نص البيان الأول الصادر عن جنيف عام 2012 على تشكيل حكومة جديدة من خلال “التوافق المتبادل” الذي يستبعد بشكل غير مباشر احتمالية مشاركة الأسد لأن المعارضة سترفض ذلك. إلا أنه في الوقت الحالي، وبعد مرور 6 سنوات من الحرب، يعتقد قلة من الناس بأن الأسد سيرحل ببساطة. وأياً كانت الحلول فستتضمن انتقالاً يمكن للأسد المشاركة فيه.

يتحتم علينا أيضاً التساؤل بشأن الشرعية التي يتحدث عنها ماكرون. هل مازال الأسد يحتفظ بها، بعد أن ارتكب جميع أنواع العنف ضد شعبه؟ وهل مازال من الناحية الشرعية رئيساً يمكن الاعتماد عليه للتعاون في مكافحة الإرهاب، بينما يسيطر بالكاد على دولته ويعتمد بشكل كامل على القوة القتالية لإيران وروسيا؟

أما بالنسبة لسؤال ماكرون – أين الخليفة الطبيعي للأسد؟ – فإذا طرحناه على أي سوري معارض للأسد سيكون الرد: قام الأسد بقتل وسجن ونفي أي شخص يمكن أن يكون بديلاً له. يعد ذلك من الطرق المجدية التي استخدمها أفراد عائلة الأسد من قبل، بما في ذلك في لبنان، حيث اتُّهموا باغتيال كل الشخصيات السياسية والفكرية البارزة على مدار عقود.

 

من يخلف الأسد؟

من المتوقع وجود قادة مستقبليين في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في سوريا، وهم نتاج سنوات من المقاومة المدنية، والذين لا يعرفهم العالم الخارجي جيداً، إلا أنهم قد يظهرون على الساحة بمجرد أن تخمد أصوات المدافع.

إن كان الغرب يرغب في خليفة يتحدث الإنكليزية، ليرأس الحكومة الانتقالية، فإن هناك مجموعة من الأسماء المطروحة بالفعل على الساحة. هناك عبدالله الدردري، وزير المالية السوري السابق، الذي كان يقود التخطيط لإعادة إعمار سوريا في اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة (الاسكوا)، إلا أنه قد يبدو مُقرباً من الأسد من وجهة نظر البعض في المعارضة. هناك أيضاً أيمن أصفري، رجل الأعمال السوري في مجال النفط والمولود في سوريا، والمعروف بنقده الصريح للأسد، وهو مؤسس مؤسسة الأصفري، التي تقدم المساعدات الإنسانية وتعزز من دور المجتمع المدني. والاسم الثالث هو رياض حجاب، رئيس الوزراء السابق، الذي انشق عام ٢٠١٢ وهو الآن منسق الهيئة العليا للمفاوضات في المعارضة السورية.

إن كانت هناك إمكانية للتوصل إلى حل وسط لمرحلة انتقالية بوجود الأسد، فقد نحتاج أيضاً لوجود تلك الأسماء التي سبق ذكرها. وما يُعد أمراً أساسياً هو جعل المرحلة الانتقالية شاملة حقاً، حتى وإن لزم وجود قائد تكنوقراطي. بعد أكثر من ٤٠ عاماً من حكم الأسد في سوريا، قد يصعب تخيل وجود غيره رئيساً للبلاد. إلا أن الخيال على وجه التحديد، هو ما نحتاجه في هذا الموقف، الخيال جنباً إلى جنب مع بناء قوة ونفوذ عسكري على الأرض، يستطيع الغرب الاستفادة منها على طاولة المفاوضات.

‎بمجرد تغيير بعض التواريخ والأسماء، تكون مقالات سورا وتوصيفاته، مُطابقة للأحداث الجارية هذه الأيام في سوريا. إلا أنه على العكس من صدام حسين ومعمر القذافي، كانت عائلة الأسد دوماً قادرة على البقاء في المقدمة. يبدو أن فرنسا وأميركا وغيرهما، على وشك العودة إلى التودّد للأسد، على أمل أن تكون وعوده للتعاون هذه المرة ليست سلاحاً ذي حدين. وربما يكون ضرورياً أن يقرأ ماكرون ما كتبه سورا لفهم طبيعة الخصم الذي يواجهه.

‎إذاً، هل تختار القيم أم السياسة الواقعية؟ ‎أحياناً تكون السياسة الواقعية بغياب القيم هي بكل بساطة عملية إنكار للواقع.