كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

قليلة، وفي الوسع القول إنها نادرة، تلك الدراسات الغربية التي تساجل أطروحات «الاستشراق»، 1978، كتاب إدوارد سعيد الرائد؛ من منطلقات بنّاءة، إذا جاز استخدام هذه الصفة بمعنى البناء على فرضيات إشكالية، وتعميق خلاصاتها بدل رفضها مسبقاً ومعاداتها مطلقاً والتحيّز ــ الأعمى، غالباً ــ للبنى الفكرية والتاريخية التي اقترح الكتاب قراءة نقدية جذرية لركائزها. كتاب الصحافي والمؤرّخ والأكاديمي البريطاني نويل مالكولم «أعداء نافعون: الإسلام والإمبراطورية العثمانية في الفكر السياسي الغربي، 1450 ــ 1750»، الذي صدر مؤخراً عن منشورات جامعة أكسفورد، يندرج في ذلك الطراز النادر؛ رغم أنّ محتوياته لا تتقصد مساجلة سعيد مباشرة.
أطروحة الكتاب المركزية تقول إنّ العشرات من المفكرين السياسيين الأوروبيين، وبعضهم كبار مشاهير من أمثال مكيافيللي وكامبانيلا وفولتير ومونتسكيو، أبناء «فترة حديثة» تمتدّ على 300 سنة ابتداء من منتصف القرن الخامس عشر؛ حملوا مشاعر مختلطة تجاه الإمبراطورية العثمانية، وبالتالي اتخذوا مواقف من الإسلام والفكر السياسي الإسلامي، لم تغرّد خارج سرب العداء والتنميطات والاختلاقات، فحسب؛ بل تبنت مواقف متفهمة، متأثرة، وأحياناً متعاطفة إلى درجة أتاحت نحت تعبير «هواة تركيا» في توصيف بعض هؤلاء. «خلال العقود الأخيرة من القرن السابع عشر، كان مساجلون متمكنون ضدّ الإسلام، أمثال لوجوفيكو ماراشي ولانسلوت أديسون وهمفري بريدو قد أدركوا أنهم مجبرون على تمييز أنفسهم عن عدد من الاختلاقات التي ترسخت على نطاق واسع في الكتابات المبكرة المعادية للإسلام»، يستخلص مالكولم.

شجون الإمبراطورية العثمانية ليست باقية، وجديرة بالسجال والخلاف، فحسب؛ بل هي تتمدّد أيضاً، غرباً قبل الشرق!

وفي مقدمته يحرص المؤلف على تبيان مدلولات بعض مفردات العنوان، على سبيل تبديد سوء الفهم الذي يمكن أن يقترن بتأويلها على غير ما تسعى، وتنتهي، إليه في فصول الكتاب؛ إذْ يشير، مثلاً، إلى أنه تردد في استخدام مفردة «أعداء» كي لا تعطي الانطباع بأنّ العداء كان السمة الجوهرية بين العالمين العثماني والإسلامي من جهة، والغرب الأوروبي المسيحي من جهة ثانية. غير أنّ منظور التفاعلات بين هذه العوالم انطوى، في واقع الأمر، على أنماط استعداء تجيز استخدام المفردة، وأنّ ثنائية «الغرب» و«الشرق» لم تولد على أسس من التناظر المسالم أصلاً. كذلك فإنّ الأحقاب التاريخية المعتمدة في الكتاب ليست عشوائية تماماً؛ كأن يشهد العام 1453 فتح العثمانيين للقسطنطينية، أو أن يكون العام 1748 هو تاريخ طباعة كتاب مونتسكيو «روح القوانين» الذي يطوّر نقاشاً سابقاً ومطوّلاً حول طبائع الاستبداد العثماني.
فصول الكتاب الـ16 متشعبة ومتنوعة وغنية حقاً، وبالتالي نافعة تماماً على غرار المآل الأهمّ الذي يلمّح إليه العنوان، بصدد فضل العثمانيين في إغناء الفكر السياسي الاوروبي، وفي تطوير موضوعاته، و«تسخين» نقاشاته الخاصة بالكون الغربي كما ينعكس في مرايا عثمانية وإسلامية شتى. وهكذا يعالج مالكولم مسائل مثل سقوط القسطنطينية في منظور الأَنْسُنيين، أبناء الغرب وإمبراطورياته الكبرى أساساً؛ ثمّ تيارات قراءة الإسلام سلباً (غالباً) وإيجاباً (في نماذج ليست قليلة، والحقّ يُقال)، وصراع الإمبراطوريات على هذه الخلفية؛ والتحالفات مع «الكفّار» العثمانيين، من جانب البروتستانت أوّلاً، وكذلك فرنسا وفينيسيا وميلانو؛ وصولاً إلى ما يسمّيه «النموذج الجديد» في العلاقة مع العثمانيين، والذي عدّل الكثير من المفاهيم السائدة دون أن يخرج تماماً عن اشتراطات العمل تحت سلطة الدول الأوروبية، على غرار اللاهوتي واللغوي الفرنسي غيوم بوستيل، بعد مرافقته سفير فرنسا الأوّل إلى اسطنبول في سنة 1535، ورحلاته في سوريا ومصر بعدئذ. كذلك يخصص مالكولم فصولاً لمنابع تحليل الاستبداد بين الشرق والغرب، وجاذبية الإسلام كدين سياسي، وقراءات القرن السابع عشر الفارقة وما أفرزته من سلسلة نظريات حول الحكم المطلق والسلطاني والملكي الذي لا يبدأ من محتد نبيل، فضلاً عن فصل خاصّ ختامي حول مونتسكيو.
وفي العودة إلى السجال مع أطروحات «الاستشراق»، يقرّ مالكولم بأنّ كتاب سعيد لا يغطي، بالفعل، الفترة التي يتناولها «أعداء نافعون…»، بل يختصّ بالقرنين التاسع عشر والعشرين حين استعمرت بريطانيا وفرنسا أجزاء واسعة من الشرق، وكانت المعارف الاستشراقية موضوعة مباشرة في خدمة المشروع الإمبريالي. ليست هذه حال معارف الغرب عن الشرق خلال الفترة التي يدرسها مالكولم، كما يقول، ليس لأنّ الإمبراطوريات الغربية لم تكن قد باشرت مشاريعها الاستعمارية، فحسب؛ ولا، كذلك، لأنّ المعارف الغربية كانت، يومذاك، بريئة من التزييف والتلفيق والتشويه بحق الإسلام؛ بل ببساطة لأنّ عدداً غير قليل من علماء الغرب أبدوا، في تلك الأحقاب، انفتاحاً ملموساً تجاه العثمانيين والعالم الإسلامي إجمالاً، وأعربوا عن تعاطف أيضاً، وبعض التأثر في نهاية المطاف.
وليس في وسعي، هذه الساعة، استجماع رأي متكامل حول ردود الأفعال على كتاب مالكولم الجديد، في الأوساط الأكاديمية الغربية بصفة خاصة، فالكتاب حديث الصدور والمراجعات عنه ما تزال قليلة. لكنّ كتابه الأسبق، «كوسوفو: تاريخ موجز»، 1998، أثار عاصفة من الاحتجاجات جرّت على مالكولم تهمة التحيز لصالح المسلمين الألبان؛ حتى أنّ الشاعر الصربي ــ الأمريكي شارلز سيميك هبط من علياء الشعر ونشر نصّاً شديد الغضب ضدّ الكتاب.
الأمر الذي يؤكد أنّ شجون الإمبراطورية العثمانية ليست باقية، وجديرة بالسجال والخلاف، فحسب؛ بل هي تتمدّد أيضاً، غرباً قبل الشرق!