الطائفية السياسية في سورية – القسم الثاني.. ياسين الحاج صالح

الطائفية والسياسة في سورية 2

‏25 مايو، 2014‏، الساعة ‏12:12 مساءً‏ 

ما بعد الكارثة

دشنت مجزرة المدفعية عقدين من الفظاعة كان النظام بطلهما. لقد تحول من نظام استبدادي مهتم بحماية سلطته ومنع رعاياه من الاعتراض عليه إلى نظام طغياني يفرض على رعاياه الولاء له ويتعامل بوحشية مع مواطنيه. أخذت الدولة تتصرف كفئة، لا كدولة. بحقد وعنف، لا بتجرد وفي ظل القانون. في عام 1982 في مواجهة تمرد إخواني أخير في حماة قتل ما يقدره أكرم الحوراني، سليل المدينة، بخمسة وعشرين ألف من سكانها[1]. شيء غير مسبوق في نطاقه. لقد دشنت مذبحة مجزرة المدفعية سنوات مجنونة وفظيعة، احترب خلالها سوريون فيما بينهم كما يتحارب أعداء، وأسوأ.

على أن النظام نعم بخمسة عشر عاما هادئة، حتى عام 2000.

لم يقتصر أثر تلك السنوات على حفر هوة نفسية بين العلويين والسنيين النمطيين، بل دفع كذلك عموم المجموعات الدينية والمذهبية الأخرى إلى الاقتراب من النظام الذي بدا حاميا لها. لقد أضحت المجموعات هذه أقليات واعية بذاتها وتمايزها، أي أنها تطيفت انطلاقا من وضع سابق كانت فيه أقل تطيفا. والسنيون الذين ترسخت “آخريتهم” للعلويين[2]، سيمسون “الآخر” للمجموعات الدينية والمذهبية الأخرى. بهذا أعطى الإخوان والإسلام السياسي في سورية عموما للنظام دورا في “حماية الأقليات”، وكذلك في حماية نمط حياة حديث نسبيا. هذا يصح بالخصوص على سنوات عهد الرئيس بشار الأسد، لأنه في عهد سلفه ووالده كان هول أجهزته الأمنية، حجما وقسوة وفسادا، دافعا للانكفاء ومضادا لأية حياة حديثة، بدرجة تقل بلا ريب عن عراق صدام، لكن من نوعه؛ ولأن “مفعول العرض” العراقي المريع في سنوات ما بعد الاحتلال الأميركي رفع من قيمة سلعة الاستقرار، ودفع إلى مزيد من الالتصاق بالجهة المسوقة لها، النظام.

من يحوز “سلطة تعريف الإسلام”؟ 

على أن التحول من نظام يهيمن فيه سنيون رمزيا ويسيطرون سياسيا، ويتصدره سنيون ومسيحيون اجتماعيا، إلى نظام يسيطر فيه علويون سياسيا وأمنيا، يخفي استمرار ثقافيا وتعليميا قلما يحظى باهتمام عام في سورية. فلا يعترف التعليم في سورية بتمايز في الإسلام، وحصتي التربية الدينية أسبوعيا في المدارس من الابتدائية إلى الجامعة تعلم الإسلام السني بوصفه الإسلام. ومثل ذلك في الثانويات الشرعية وكلية الشريعة في جامعة دمشق. لا ذكر ممكنا لفرق إسلامية أخرى، ومن باب أولى تعليم عقائدها[3]. فلم لا يثير هذا الوضع الغريب أية مطالبات علنية وعامة في أوساط الجماعات المذهبية الإسلامية، العلوية والدرزية والاسماعيلية؟ أخمن أن السبب وراء ذلك هو كون عقائد هذه المجموعات سرية أو “باطنية”. فالمطالبة بتعليم تعدد “الإسلام” ربما ستواجه بالمطالبة بكشف المذاهب المستورة وعرضها على الملأ.

وبسبب غياب أي شكل من النقاش الاجتماعي لهذه المشكلات لا يدرك السني السوري النمطي الإقصاء الديني الممارس على العلويين والدروز والاسماعيليين باحتكار السنيين اسم الإسلام وسلطة تعريفه، وانحدار القائمين على مؤسسات تعليمه من أوساطهم حصرا. هنا ثمة طائفية متبنينة وغير مشعور بها فعلا. لذلك لا تدخل عموما في الحساب عند الشكوى من الوزن السياسي الكبير لعلويين في نظام الحكم. ويبدو أن المشكلة مدركة جيدا في الوسط العلوي[4]، وربما الدرزي والاسماعيلي، لكنها لا تكاد تكون محسوسة في الوسط السني. وبالطبع ليس من شأن كون الطائفية متبنينة اجتماعيا أن يجعلها طائفية أقل أو معدومة.

ولعل هاتين المشكلتين، حصر التعليم العام في إسلام سني معياري حصرا في مجتمع متعدد المذاهب، وسرية المذاهب الأخرى، ستواجهان سورية في مستقبل غير بعيد. ويأمل المرء أن تواجهاها من باب الثقافة لا السياسة، وإن كانت مسوغات أمل كهذا ضعيفة في بلد كسورية، “سياسي” أكثر مما يجب ويجدي.

لكن إذا كانت الطائفية اجتماعية الأصول الالأصولصول في زمن سبق، ثم سياسية في الزمن البعثي، فإن بناء الأمة في سورية على أسس تتجاوز الطائفية في السياسة لن يكون مكتملا دون أن يفتح أبواب مواجهتها في الثقافة والتعليم. وسيلزم مواجهة الأصعب: كسر احتكار السنيين لما يسميه تورستن شيوتز وورن “سلطة تعريف الإسلام”، وإزالة الحجب عن العقائد “الباطنية”.

ولعل تلبية هذين المطلبين تقتضي حلال مبتكرا وشجاعا ووطنيا، يتصل بتجديد سورية وإعادة بنائها على أسس جديدة. وأحد هذه الأسس هو نزع الصفة الإلزامية للتعليم الديني في المدارس العامة وحصره في مدارس خاصة للراغبين. ونفترض أن تعليم مذاهب دينية متعددة في المدارس غير مرغوب لأن وظيفة المدرسة تعهد المواطنة والمساواة وليس الاختلافات الاهلية. ونسلم أيضا بان الوضع الراهن الذي يحصر الدين في إسلام سني معياري (مسيحي) غير منصوف وغير مرغوب بدوره لأن “الأمة” لا تقوم على الدين. إن معالجة جذرية للطائفية تقتضي كسر احتكار الدين كما كسر احتكار الدولة، سلطة تعريف الدين كما سلطة حكم الناس.

ماتت الدولة، عاشت الدولة!

كان لافتا يوم توفي الرئيس حافظ الأسد في 10 حزيران 2000 واليومين التاليين إقبال كثير من السوريين على تخزين مواد غذائية وتقليل الحركة خارج بيوتهم، ولقد كانت محلات تجارية كثيرة مغلقة تحسبا. تسنت لي معاينة ذلك شخصيا في حلب يومي 10 و11 حزيران، وبدرجة ما في اللاذقية يوم 12 حزيران. وبدا أن السلطات، بالمقابل، كانت مشلولة، فهي لم تعتد على وضع كهذا ولم تكن تتوقعه أو تتجاسر على التفكير فيه. وينبغي لتوجس الجمهور العام وتحوطه في الأيام الأولى أن يكون مفهوما. فقد كان الرئيس المتوفى هو الدولة، وبموته ماتت الدولة، وقد كانت متضخمة جهازيا بقدر ما هي ضامرة كفكرة، فبات كل شيء محتمل الحصول. ولم يكن لتوريث السلطة الفوري مغزى يخالف الخشية من موت الدولة. فهو أيضا يشير إلى خوف مستعر من المجهول والفراغ السياسي الذي سينشط تماديه حتما أشباح الماضي وشياطينه. وهكذا لم تنقص نصف ساعة على إعلان وفا الرئيس الأب حتى عدل الدستور ليشغل الابن مكانه. ماتت الدولة، عاشت الدولة!

وما كان للحظة أخرى أن تكون أدل على “طبيعة” السلطة من لحظة “إعادة إنتاجها” تلك. لقد أظهرت الطابع الشخصي والعائلي لممارسة السلطة، وشخصنة الدولة. وكانت مصداقا لا يدحض للشعار الذي كان يرفع طوال العقدين السابقين لوفاة الرئيس: قائدنا إلى البد الأمين حافظ الأسد، أو لوصف سورية بأنها “سورية الأسد”. فبعد أن بدا لوهلة أن الموت أنهى “الأبد”، سينجح التوريث في التغلب على الموت وتجديد الأبد.

عهد جديد!

في العام التالي، المرحلة التي تسمى “ربيع دمشق”، بادر معارضون إلى طرح فكرة “المصالحة الوطنية”. لقد انطوت الفكرة على رغبة في طي صفحة ملفات إنسانية وموروثة عن أزمة الثمانينات الوطنية، وإرادة الحيلولة دون تكررها، وبالخصوص ما اتسمت به من عنف طائفي فاحش[5].

أما النظام فقد ثابر على صممه ورفضه أي انفتاح على معارضة الداخل أو على الإسلاميين. بل إنه في أيار 2005 (بعد أسابيع قليلة من استكمال انسحاب القوات النظامية السورية من لبنان)، وفي أقوى رسالة ضد الإسلاميين، بادر إلى إغلاق آخر منتدى مرتبط بالمعارضة إثر تخصيصه جلسة لطرح ومناقشة تصورات القوى والأحزاب السورية لمستقبل البلد، واعتقل أعضاء مجلس إدارته لأيام، بينما قضى قارئ[6] ورقة المراقب العام للإخوان السوريين نحو ستة أشهر في السجن. كان النظام استفاد من هجمات 11 أيلول التي نفذها إسلاميون مرتبطون بتنظيم القاعدة في الولايات المتحدة في إبطال تأثير مبادرات الإسلاميين السوريين التصالحية. وتحول الانتباه الدولي، وبدرجة ما المحلي، إلى قضايا الإرهاب وارتباطه بالإسلام ووضع الإسلام الحركي، أضعف قضية الإسلاميين وقضية إدماجهم في الحياة العامة.

وهو ما سيكون أيضا مفعول ما تلا الاحتلال الأميركي للعراق من إرهاب متوسل للإسلام مثالا اجتماعيا وسياسيا وإيديولوجية مشرعة ورموزا مميِّزة. لقد كان لاحتلال العراق تأثيرا متناقضا على المسألة لطائفية في سورية. من ناحية ترسخت النظرة الدينية إلى العالم، وازداد الوعي الذاتي الفئوي قوة، ومثله الاهتمام المعرفي والسياسي بالعامل الطائفي في أوساط النخب. ومن ناحية ثانية اشتد ميل أكثرية السوريين إلى التمسك بالوضع القائم، خوفا من مخاطر التنازع الطائفي، لكن كذلك عداء للأميركيين. عداء ستضفي عليه ممارسات الأميركيين السياسية والإنسانية في العراق شرعية غير منقوصة.

ولقد استفاد النظام أيما فائدة من ذلك. وكذلك من تطورات الوضع اللبناني بعد اغتيال رئيس وزرائه الأسبق رفيق الحريري والانسحاب السوري من لبنان وسوء معاملة عمال سوريين هناك وتصريحات طائشة من مسؤولين لبنانيين. أسهم ذلك في بروز “وطنية سورية” إن لم تكون متمحورة حول النظام، فهي بالقطع غير معادية له.

ولقد دفع التحقيق الدولي في اغتيال الحريري وحرب تموز 2006 في لبنان إلى تعزيز علاقة النظام بإيران إلى درجة ما اعتبره مراقبون عرب تبعية من الطرف السوري للطرف الإيراني. تعززت العلاقة أيضا بواقع مصلحة الطرفين في رؤية الأميركيين يتخبطون في العراق، وإن بدعم أطراف متناقضة.

“ظاهرة التشيع”

وفي عامي 2006 و2007 أخذ يتعالى الكلام عل حملة تشيع في أواسط المسلمين السنيين في سورية. ثمة نار بلا شك تحت هذا الدخان، إلا أن مدى انتشارها غير معروف. ولما كان من المألوف أن يتعرض كل ما يتصل بالمشكلات الطائفية إلى تسييس مفرط، فإن من الصعب التمييز بخصوص موجة التشيع المفترضة بين الحقيقة الواقعة وبين الأجندات السياسية التي توظفها لأغراض تخصها. ومن بين دوافع تسييس القضية ما يرمي إلى إظهار مدى تبعية النظام لإيران، ولا يخلو الأمر كذلك من أبعاد طائفية. فالأطراف العربية التي أطنبت في الكلام على “انتشار كبير للمد الشيعي في بلاد الشام، وسورية على وجه الخصوص”[7] هي أطراف سنية.

والحال لقد تحول بعض السوريين فعلا نحو التشيع[8]. لا أرقام أو معطيات موثوقة حول ذلك، بيد أن الظاهرة موجودة. وورائها في تقدير شخصي ثلاثة عوامل. الأول مزيد من انجذاب قطاعات من السوريين إلى الاطلاع على الإسلام الشيعي، بعد ما سجله حزب الله اللبناني الشيعي من أداء عسكري لافت في حرب تموز 2006 في مواجهة إسرائيل. والثاني مال إيراني يصرف على المتحولين نحو التشيع إلى درجة تفتح شهية أشخاص لا يحركهم عامل إيماني (بعضهم أقارب لكاتب هذه السطور، أخفق مسعاهم)، ودور نشط للسفارة أيام كان حسن اختري[9] سفيرا وللمركز الثقافي الإيراني في دمشق. وثالثها موقف غير ممانع، إن لم يكن إيجابيا، من جهة السلطات السورية حيال هذا التحول.

على أن الانفعال الذي ووجهت به ظاهرة التشيع أخفى وجها آخر قد يكون أهم للظاهرة ذاتها: “تشييع” الشيعة السوريين أنفسهم، أعني تعزيز وعيهم الذاتي الخاص واجتذابهم نحو النموذج المعياري الإيراني[10] بعد أن كانت سمة التدين الشيعي بعيدة عن المعيارية، وكان الشيعة مندمجون في بيئاتهم المحلية. ولعل كلا من العلاقة الخاصة للنظام بإيران وتنطح الدولة الإيرانية لرعاية مقامات وأضرحة تخص بعضا من “آل البيت” وأصحاب الإمام علي، أسهمت في تعزيز شعور الشيعة السوريين بذاتهم ودفعهم إلى الظهور.

ومن مظاهر التشيع التي تصاعد الكلام عليها إنشاء حسينيات وحوزات وتوسيع مقامات مقدسة، وتشكيل جمعيات خيرية ومؤسسات صحية، وصولا إلى حد دفع رواتب للمتشيعين. ويذكر مصدر هذه المعلومات[11] أن “جمعية علماء دمشق أرسلت بعض أعضائها إلى إيران للاحتجاج على ما يرجي في سورية وبيان مخاطر نشر التشيع في الأوساط الشعبية، وأبدت مخاوفها من ردود أفعال معادية تجاه الطائفة الشيعية السورية”.

هل النظام طائفي؟

طرح هذا السؤال سنّة متواترة عند العديد من الكتاب الأجانب الذي ألفوا كتبا عن سورية المعاصرة[12]. السوريون قلما ألفوا كتبا عن بلدهم، فإن فعلوا فإنهم لا يطرحون السؤال أو يحورونه ويدورون حوله[13].

وفي كتابه “الصراع على السلطة في سورية: الطائفية، الإقليمية، والعشائرية في السياسة”، يقدم نيكولاوس فاندام عناصر وفيرة للإجابة على السؤال دون أن يطرحه صراحة. وتتكرر الفكرة التالية بصيغ متقاربة مرات في كتابه: “إن الذين تم إبعادهم عن السلطة [في الستينات] بسبب قيامهم برفض تطبيق تكتيكات طائفية أو إقليمية أو عشائرية، استنادا منهم إلى أسس مثالية، قد حرموا بالتالي من إمكانية تطبيق مثالياتهم. أما الذين استغلوا الطائفية والإقليمية والعشائرية كوسيلة للاستيلاء على السلطة أو الاحتفاظ بها أو الذي اضطروا لاستغلالها من قبل معارضيهم، من أجل حماية أنفسهم [المقصود على الأرجح: اضطرهم خصومهم لتوسل الطائفية حماية لأنفسهم]، فقد أمكنهم فيما بعد التركيز على برامجهم السياسية ومثالياتهم”[14].

المشكلة حقيقية إن نظرنا إلى تاريخ سورية المضطرب بين استفلالها وعام 1970. ولعل حافظ الأسد، الرجل الذي كان شابا بعثيا في التاسعة عشر من عمره حين وقع أول انقلاب عسكري في سورية عام 1949، وضابطا شابا في زمن اصطخاب الحياة السياسية السورية بالانقلابات والدسائس والمؤامرات والتحالفات والاستقطابات في خمسينات القرن العشرين، ورجلا ناضجا في مرحلة ما بعد الوحدة مع مصر، وفاعلا أساسيا في الفترة 1963-1970، قد أدرك أن المهم في سورية ليس الوصول إلى السلطة بل بالأحرى الاحتفاظ بها. لقد “اضطر” إلى الاعتماد على موثوقيه والمقربين منه لترسيخ حكمه. ولعل كون موثوقيه من خلفيات اجتماعية كانت محرومة ومهمشة قد أزال أية وساوس ربما تكون انتابته. لقد التقت حاجته إلى تأمين نظامه مع إيديولوجيته “الاشتراكية” لتسويغ الاستناد إلى منحدرين من الطائفة العلوية. لو لم يفعل لربما كان نظامه أقل حصانة، لكنه إذ فعل اكتسى النظام بوجه طائفي. وفي النهاية فإن المرء، فردا أو طرفا اجتماعيا أو نظام حكم، لا يكون طائفيا فيمارس ممارسات طائفية، إنه يمارس ممارسات طائفية، فيغدو طائفيا. وهو يمارس الطائفية خدمة لأغراض قد لا تكون طائفية، بل ربما قومية ووطنية. لكن في الحصيلة، يتقوض بنيان الأمة التي تمر خدمة أهدافها عبر ممارسات طائفية.

بلى، لقد أضحى النظام في وضع أفضل لتنفيذ “برامجه السياسية ومثالياته”، لكن الاستناد إلى الطائفية والعشائرية أعاق بلورة سياسات و”مثاليات” وطنية عامة، وجعل السياسة موجهة نحو إعادة إنتاج البنية الطائفية والعشائرية ذاتها. وبعد أن كانت الطائفية وسيلة لتأمين السلطة لتحقيق أهداف تتجاوز السلطة والطائفية معا، فإن تأمين السلطة سيغدو هو الهدف الأسمى، والطائفية أداة موثوقة، أما الأهداف الوطنية و”المثاليات” فستمسي إيديولوجية مشرعة فحسب.

هل النظام طائفي إذن؟ إذا صح التحليل السابق، ونظنه صحيحا، فإن النظام متمركز حول السلطة لا حول مشاعر التضامن الطائفي التي لا تعدو كونها وسيلة مأمونة لصون السلطة. بيد أن للطائفية موقعا ممتازا بين آليات تأمين وإعادة إنتاج النظام، كما أظهرت عملية توريث السلطة عام 2000. فالنظام يستفيد من انخفاض عتبة تماهي العلويين معه حتى حين يكون انتفاعهم المادي منه محدودا أو يكونون أقرب إلى المتضررين منه. ولا ريب أنه يوثق التماهي هذا استهداف النظام في وصفه نظاما طائفيا أو علويا، كما يستند إلى ذاكرة قديمة مسكونة بالاستبعاد والاضطهاد طوال قرون، وذاكرة حديثة رسخها استهداف الإسلاميين بعنف مادي وخطابي للعلويين بوصفهم علويين، بالخصوص في الفترة 1979-1982. ليست مشاعر التضامن الطائفي تلك لا عقلانية إلا إذا اختزلنا العقلانية إلى النفع المادي. والحال إن الأمان والثقة والتماهي و”رفع الرأس” والاعتزاز[15] قد تتقدم في مجتمعات منقوصة التكون كدول أمم، لا يتمتع مواطنوها بمساواة قانونية وسياسية، على أية منافع مادية محتملة.

 

الطائفية والوضع الراهن

أين تقف سورية اليوم من وجهة نظر مقاربة الطائفية؟ من جهة أولى ما من طائفة هي طائفة- طبقة أو ما يقارب ذلك. الهامشية والحرمان المادي، موزعان على الجماعات الدينية والمذهبية جميعا. ولم تعد ثمة طوائف معزولة جغرافيا في مناطق نائية أو جبال حصينة. قد ينحدر سكان مناطق ريفية هنا أو هناك من منابت دينية أو مذهبية واحدة، بيد أن المدن السورية مختلطة بدرجات متفاوتة. العلويون اليوم، ومنذ أكثر من جيل واحد يقيمون في دمشق وحمص، ومنذ قرابة جيلين في اللاذقية وطرطوس الساحليتين، وبدرجات أقل في مدن أخرى. وأبناؤهم مدينيون ومنفتحون على أنماط الحياة الحديثة بدرجة تفوق متوسط المسلمين السنيين. مثل ذلك ينطبق على الجماعات الأخرى، الدروز والاسماعيليين، فضلا عن المسيحيين.

لكن من جهة أخرى يشكو المجتمع السوري من إفقار سياسي جائر، يدفع السكان إلى التماس السياسة المحرمة والانتظام المستقل والتعبير عن مطالب جماعية على مستوى هوياتهم الدينية والمذهبية[16]. وهذا يندرج في الخراب الشديد الذي لحق بالجمهورية والمواطنة في سورية، الأمر الذي يتجسد بأجلى صورة في توريث السلطة من الأسد الأب إلى الأسد الابن في عام 2000. في الأصل لم تكن القيم الجمهورية والمواطنية قوية في سورية، فلا مجال لافتعال مفارقة في هذا الشأن، بيد أن التوريث مثل لحظة الترجيح النهائية للعلاقات الأهلية على حساب العلاقات المدنية ونظام المواطنة القائم على المساواة القانونية والسياسية بين الأفراد بصرف النظر عن حيثياتهم الأهلية. ولعل اندثار حركة “ربيع دمشق” (2000-2001) التي وعت ذاتها بلغة مفاهيم المجتمع المدني والمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان و”المصالحة الوطنية”.. كان مكتوبا في عملية التوريث كتجربة مؤسسة للعهد.

في الحصيلة الأهلي حاضر بقوة في وعي وسلوك الأفراد من وراء بلاغة وطنية عامة يتقنها الجميع وينتحلونها ولا ينتهكونها علانية. المدن مختلطة، بيد أن الأحياء المختلطة فعلا فيها قليلة، وسكان الأحياء هذه أما من البرجوازية العليا، أو من الطبقة الوسطى المهنية والحديثة التأهيل. وليس ثمة ما يشير إلى ترق في الطاقة الدمجية للمدينة. بل لعل المزج المحكم بين ليبرالية اقتصادية وتسلطية سياسية سيزيد انكفاء الجماعات الأهلية على نفسها، وقد يعزز من وظيفتها التكافلية بالنظر إل التراجع المرجح في وظائف الدول الاجتماعية.

ويتراءى لنا أنه ثمة عقد تعيس يحكم العلاقات بين الدين والدولة في سورية اليوم: حرية كاملة للطاقم الحاكم في مجال السلطة السياسية مقابل حرية متنامية للجهات الإسلامية السنية في المجال الاجتماعي العام، وبالطبع للجماعات المذهبية والدينية الأخرى، كل في مجالها. لكن هذه تبقى أقل ظهورا، باستثناء المسيحية منها، لكون “سلطة تعريف الإسلام” وإظهار رموزه تقع بيد الإسلام السني كما سلف القول.

هذه هي السياسة الدينية المعتمدة. وجوهرها الحفاظ على سلم أهلي بالمعنى الحرفي للكلمة، أي علاقات “حسن جوار طائفية” حسب تعبير ياسين الحافظ[17]، لا ترتقي أبدا إلى سلم مدني حقيقي، ونزع السياسة العامة من الأفراد والتنظيمات الاجتماعية الطوعية من جهة ثانية. أما الخاسر فيها هو أي شكل منظم وواع لذاته للحداثة الاجتماعية والفكرية، وبالطبع السياسية. المعارضة السياسية تقمع. الحركات النسوية المهتمة بإصلاحات قانونية تقمع. تبقى الحداثة الجهازية للنظام من ناحية، وما تستصلحه لنفسها الطوائف من “حداثة” في الزي ونمط الحياة من ناحية ثانية.

ولعل الأصل في هذا العقد هو حالة الفراغ الفكري في البلد، ومقتضيات سياسية وإيديولوجية “الممانعة” التي لا تجد لها مرسى فكريا في غير “الإسلام”، فضلا عن ثقة النظام راهنا بقدرته على الاختراق الأمني لهذا الانتشار الاجتماعي للدين. بيد أن المحصلة المحتمل لهذا الطراز من السياسة الدينية هو التشكل الطائفي للمجتمع وإشغال النظام الموقع الحصري لضبط التفاعل بين جماعات تقل التفاعلات المستقلة فيما بينها.

في المجمل يسعنا أن نصف الحال السوري اليوم كالتالي: النظام تسلطي، المجتمع طائفي، الاقتصاد ليبرالي، الإيديولوجية وطنية ومعادية للغريب. أو أفضل أن نتحدث بلغة العمليات: النظام يتمركز أمنيا باطراد، المجتمع يتطيف، الاقتصاد يتلبرل، والإيديولوجية تزداد ممانعة، حيث الممانعة هي الوطنية معرفة بدلالة الموقف من “الخارج”. وهذه الأحداثيات وثيقة الترابط فيما بينها. فالتسلطية السياسية وطائفية المجتمع وجهان لصيغة “العقد الاجتماعي” الراهن في البلاد: لا شراكة في سلطة الدولة مقابل تنظيم تشاركي أو كوربوراتي للمجتمع. وبالمثل تشكل التسلطية السياسية والليبرالية الاقتصادية وجهان متكاملان لنمط التراكم الاقتصادي الجاري في البلاد، وهو نمط “تراكم أولي”، يشغل الاستيلاء مكانة جوهرية فيه. ولم يعد الاقتصار على اقتصاديات “القطاع العام” مناسبا لتطور شريحة رأسماليين السلطة الكبار الذين أثروا أيام عز “الاشتراكية”، الأمر الذي صار يقتضي “تحرير الاقتصاد”. أما الوطنية “الممانعة” فهي الإطار الفكري للكل، أي مزيج التسلطية والليبرالية الاقتصادية والطائفية. ومن السهل أن يلاحظ المرء أن ليبراليي السلطة ليسوا أقل “وطنية” من “اشتراكييها”[18]. ومن المتوقع في تقديرنا أن يرتفع منسوب الوطنية في الدم السياسي والثقافي السوري خلال السنوات القادمة أكثر حتى مما ارتفع بعد الانسحاب السوري القسري من لبنان. ستكون ضرورية من أجل تغطية التطييف الاجتماعي والتسلط السياسي والتلبرل الاقتصادي معا[19].

[1] بطاطو، المصدر نفسه، ص 203.

[2] السني هو الآخر الذي يبني العلوية هويته في مقابله، هذه فكرة رئيسية في  Fear and Resistanc، نفسه، مواضع متفرقة منه.

[3] Fear and Resistance، نفسه، ص 83-87.

[4] المصدر والصفحات نفسهما.

[5] قد تكون أول صيغة لفكرة المصالحة الوطنية طرحت في افتتاحية بعنوان “من المرحلة الانتقالية إلى المصالحة الوطنية: إنهاء مرحلة ما بعد 1980 في سورية” لنشرة “الموقف الديمقراطي” التي يصدرها “التجمع الوطني الديمقراطي” المعارض في أيار 2001. نص الافتتاحية موجود في ” سورية بين عهدين: قضايا المرحلة الانتقالية، محمد جمال باروت وشمس الدين كيلاني، الطبعة الأولى، دار سندباد للنشر، عمان، 2003، ص 194-198. ولقيت صياغة أشمل في محاضرة لرياض الترك ألقيت في منتدى الأتاسي للحوار الديمقراطي في آب 2001. في الكتاب نفسه، ص 499-513.

[6] هو علي العبدالله، الكاتب والعضو المنتخب في الأمانة العامة لإعلان دمشق، والمعتقل مجددا منذ أواسط كانون الأول 2007.

[7] الداعية السعودي الشيخ سليمان العودة في تصريح له في 22/10/2206. وارد في تحقيق لقناة CNN الأميركية مترجم إلى العربية في 4 نيسان 2004 بعنوان: “الشيعة في سورية: حقوق دينية مصانة في مجتمع مصادر“.  ومن بين من يذكر لهم التحقيق قولا في “حركة التشيع” رجل الدين الإسلامي السوري وهبة الزحيلي والمراقب العام للإخوان المسلمين علي صدر الدين البيانوني و..السيد عبد الحليم خدام.

[8] تراجع مقالة أندرو تابلر  The Middle East is abuzz with talk of Shiitization. New York Times Magazine, April,29,2007. والمقالة متاحة على الرابط http://joshualandis.com/blog/?p=238

[9] ورد في أنباء مطلع عام 2008 أن السفير أختري أبدل بسفير آخر، محمد الموسوي المقرب مثله من مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي،  بطلب من السلطات السورية التي رغبت بسفير يكون “أقل تدخلا في الشأن الداخلي” السوري حسب مصادر غربية في دمشق. وكالة أنباء آكي الإيطالية، 3 كانون الثاني 2008.

[10] يبدو أن “أيرنة” مماثلة جرت للشيعة اللبنانيين حسب أحمد بيضون في مقاله الممتاز “لبنان: أشياع السنة وأسنان الشيعة: جديد في رسم الجبهة“، وكان المقال نشر في موقع “الأوان”، إلا أنه لم يكن متاحا في الموقع وقت كتابة هذه المقالة. على قلة عدد الشيعة السوريين ستحد من من النزعة “الاحتفالية والشعائر الجماعية” التي رصد بيضون تأثر شيعة عراقيين، ثم لبنانيين، بها انطلاقا من إيران.

[11] انظر تقرير سياسي مقدم من اللجنة المركزية لحزب الشعب الديمقراطي السوري المعارض إلى مجلسه الوطني في تشرين الثاني 2007.

[12] مثلا Batatu, ibid, pp 226-230؛  لوبماير: القسم الثاني، الفقرة المعنونة: إلى أي حد يمكن اعتبار نظام أسد علويا؟

[13] انظر مثلا محمد كامل الخطيب: وردة أم قنبلة؟! إعادة تكوين سورية، الطبعة الأولى، 0021، دمشق، 2006. وموضوع الكتاب هو الطائفية التي يجتهد الكاتب في تلفيعها وإخفاء ملامحها دون أن يمنعه ذلك من اتهام غيره بها.

[14] فاندام، المصدر نفسه، ص 191. وقارن أيضا مع ص 115، 119، 199.

[15] تتواتر كلمة العزة والاعتزاز في وصف الأثر الذي يفترض أن سلمان المرشد أحدثه في جماعته التي أسماها العشيرة الغسانية إو  بني غسان. و”الرسالة” ذاتها تنسب إلى ابنيه مجيب الذي قتل عام 1952، وسمي “بنو غسان” بالمرشديين بعد دعوته فحسب، وساجي الذي توفي عام 1998. يراجع كتاب نور المضيء المرشد، نفسه، مثلا ص 161، و199، و277..

[16] تنظر مقالة لكاتب هذه السطور بعنوان: “الطائفية كحصيلة للفقر السياسي وكحد له“، جريدة “الحياة”، 27/1/2008.

[17] في كتابه “في المسألة القومية الديمقراطية“، الطبعة الثانية، دار الحصاد، دمشق، 1997، ص 158.

[18] قارن مثلا بين جريدة “الوطن” أو مجلة “أبيض أسود” المملوكتين لأثرياء سلطة، وجرائد “تشرين” أو “الثورة” أو “البعث”: ما من فرق ولو ثانوي في التوجه السياسي، بل إن الصحف “الخاصة” أشد تحررا من مراعاة شكليات تراعيها الجرائد “العامة”، ولذلك أشد سفاهة أيضا في إعلان عداواتها.

[19] من أجل عينات على هذه “الوطنية”، انظر على سبيل المثال مقالة ابراهيم حميدي، مراسل جريدة الحياة اللندنية في دمشق: “دمشق «عاصمة المقاومة» سياسياً وثقافياً في 2008؟” في 31/1/2008، حيث نقرأ عن مؤتمر منظمات فلسطينية معارضة في دمشق بين 23 و25/1/ 2008، رفضت فيه فكرة دولة فلسطينية في حدود 1967 وجرى الكلام على “فلسطين من النهر إلى البحر”؛ كذلك أورد حميدي كلاما للرئيس بشار الأسد في تدشين احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية في 19/1/2008 عن أن دمشق “عاصمة للكرامة العربية تمنحنا إحساساً قوياً بالعزة القومية والإنسانية. إحساساً لا ينضب بالكرامة الوطنية. ولهذا، فدمشق عاصمة ثقافة المقاومة بصفتها سمة أصيلة من سمات ثقافتنا العربية”، وأنه منها انتشرت “ثقافة الرفض لكل آثار الاستعمارين القديم والجديد”. وتستفيد الوطني الممانعة هذه من شروط الحصار الغربي والعربي جزئيا. وهي شروط مناسبة جدا للنظام، الذي يكاد تكوينه الاستثنائي يقتضي الحصار ويستدعيه لو لم يوجد. بالمقابل تضعف هذه الشروط عموم السكان وتنظيمات النمعارضة بخاصة، والروح الانشقاقية في الثقافة والتفكير والسلوك.