أودى انفجار مرفأ بيروت بحياة 43 سوريا وفق آخر الإحصاءات، ولكن هذا الدم الكثير لم يسمح له بأن يكون جزءا من الكارثة، بل بقي في حيز التجاهل والإهمال. أسماء الضحايا لم تبرز سوى في بعض تعليقات الناشطين الذين فهموا أن هذا الإخفاء المقصود لمشهدية المأساة السورية في تفجير المرفأ يكاد يوازي ثقل الكارثة بكاملها.
التذكير والتأكيد على حضور الدم السوري في تفجير المرفأ كان محاولة جدية لإنقاذ البلد من براثن التأويلات المرة، التي حرص أصحابها على قتل الضحايا مرارا وتكرارا، عبر جر الحدث إلى إقامة جبرية في سجن الطوائف والخصوصيات.
لم يعد التفجير بنظر أرباب الطوائف كارثة لبنانية بل اقتصر على كونه انفجار الأشرفية على لسان رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وبذلك لم يعد لأي دم غير مسيحي الحق في الكلام والتعبير عن نفسه، أو أن يكون له أولياء يطالبون بالعدالة والقصاص.
تبع ذلك سلوكات ميليشوية وإنشاء خيم ميدانية في المناطق المنكوبة بحراسة عناصر حزبية تعمل على طرد كل من قدم إلى المنطقة للمساعدة وتقديم العون، والاعتداء على السوريين والفلسطينيين الذين كانوا في طليعة المبادرين الميدانيين إلى المساعدة في رفع أضرار الكارثة، والتأكيد على وضع كل إمكانياتهم، وفتح قلوبهم وجيوبهم وبيوتهم للمشاركة في لجم آثارها.
لم يتلق اللبنانيون، أو فلنقل القسم الذي يجد نفسه معنيا بالكارثة أكثر من غيره، كل هذا الحب سوى بالإنكار، وتم الرد عليه بالاعتداء والرفض. لم يستطع كل الدم السوري المهروق في المرفأ أن يمنح أصحابه الناطقين باسمه دورا وحضورا، بل كان هذا التعامل مع السوريين والفلسطينيين بمنزلة إصرار على إعادة إنتاج آثار الانفجار مرارا وتكرارا وإدامتها إلى ما لا نهاية.
استقبلت الطبقة السياسية المسيحية خصوصا واللبنانية عموما التفجير بوصفه عملية إنقاذ سمحت لها بإعادة بسط المحمول الأقصى من طائفيتها وانتهازيتها. رئيس الجمهورية اعتبر أنه ساهم في فك الحصار عن البلد، والحقيقة أنه كان يقصد بذلك زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي قدمت سلسلة اقتراحات من شأنها أن تفك الحصار عن حزب الله في حال نجاحها، كما حرص قائد حزب القوات اللبنانية سمير جعجع على الدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة وفق القانون الحالي الذي يعرف في الأوساط الإعلامية بأنه قانون حزب الله.
السوري في هذه المعادلة لم يعد قادرا على حمل أي صفة تتيح له الدفاع عن موته، فقد فقد الطابع الطائفي والنظرة إليه بوصفه دعامة للديمغرافيا السنية في البلد، بعد أن باتت أخبار تعامل السنة مع السوريين في المناطق التي يسكنون فيها ترشح بالعداء والتضييق الذي وصل في مرات كثيرة إلى منع دفن السوريين في مقابر الضيع السنية، والنظر إليهم بوصفهم سلاحا استعمله خصومهم ضدهم.
بعد إسقاط الصفة الطائفية عن السوري، وضع في خانة انعدام التعريف وصار قابلا لأن تلصق به أي صفة مهما كانت، وهذا ما وجدت فيه الطبقة السياسية عموما والمسيحية خصوصا وسيلة لتفعيل خطاب قديم، كان المؤسس لحرب أهلية تسعى إلى تجديد خطابها وظروفها، وتنتظر نضوج مسارب تمويلها وتسليح أطرافها.
ويجدر التنبيه إلى أن السوريين الموجودين في لبنان لا يشكلون أي حالة حربية ممكنة، بل يمثل القسم الغالب منهم حطاما من المنهكين والمحرومين من أبسط شروط العيش، فهم في معظمهم من الأطفال والنساء والرجال المتوسطي الأعمار والكهول. النظامان السوري والإيراني وحزب الله الذين كانوا سبب تهجيرهم، حرصوا على أن يكون الوجود السوري في لبنان عبارة عن حالة طارئة، تستوجب تدخلا إغاثيا دائما.
ما لم نفهمه حتى الآن أننا نسكن كلبنانيين بعد انفجار المرفأ في الحالة نفسها التي يقيم عليها السوريون. تاليا فإن ما لحق بهم من تجاهل لدمائهم ومنعهم من النطق باسم مأساتهم إنما يتكرر معنا حرفيا مع حجم الاستثمارات الضخم لما حدث، ومحاولات دفعه في اتجاهات عديدة ترتبط بمصالح الأطراف الدولية المشاركة فيها، من دون أن يكون للضحايا أي حق في تقرير أي من هذه المسارات.
لم ننتبه إلى أننا سوريون الآن، وأن دمنا المسفوح في المرفأ قد سبق له أن أهدر في تفجير مماثل سبق له أن حدث في سوريا قبل أشهر عديدة، وكانت مادته قد سربت من مستودعات الموت التي يخزنها الحزب القاتل وسط بيوتنا إلى سوريا، وتسببت بموت واحد في بلدين.
مضاعفة الموت السوري والإصرار اللبناني عليه من شأنه أن يفتح قبورا كثيرة في القادم من الأيام، سيسكنها الأمل في النجاة من هذه الطبقة السياسية التي تعيد بناء نفسها حاليا من خلال تحويل كل استثنائي إلى عادي. لعل أبرز مثال على ذلك تلك الحساسية اللبنانية الضعيفة تجاه إعلان حالة الطوارئ، وما تفترضه من تمكين منظومة العسكرة من التحكم بكل شيء في البلد.
العسكرة ليست سوى موت السياسة، فلا يمكن أن نتوقع أنها ستنتج شيئا آخر مغايرا لطبيعتها. الدفع بها لاحتلال واجهة المشهد اللبناني حاليا، ليس سوى محاولة لطمس معالم الجريمة وفصل ضحاياها عن بعضهم البعض، لا بل وضعهم في تعارض وتناقض بين ضحايا أصليين نتحايل في وصفهم بالشهداء وبين ضحايا لا اسم لهم ولا صفات ولا وجود، بينما لا ينظر إلينا القاتل سوى كرافعة لإعادة إنتاج زمنه الذي يعني أن موتنا وتعذيبنا سيستمر إلى الأبد.

 


تلفزيون سوريا