مناف الفتيح

السؤال الذي يطرحه الحدث اللبناني أكبر من الجدل السطحي الذي يغرقنا في تفاصيلٍ صغيرة تحجب الصورة الكبيرة. إن مؤشر بوصلة الاتجاه الصحيح في قراءة ما وراء انفجار المرفأ يشير إلى استحالة وجود هكذا مادةٍ خطيرة لسنواتٍ طويلة بكميةٍ هائلة دون أن تدري أجهزة الاستخبارات العالمية، و لأن هذا غير واردٍ فإن ضرورة التفكير في الحدث بوصفه ظاهراً من باطنٍ يستوجب جلاء صورته رفعَ البصمات الخفية لفاعلٍ أو أكثر هم وراء ظاهرة تضخم نفوذ حزب الله و موت الدولة و معها السياسة في لبنان كما في المحيط العربي.

في عام 2015 أعد مجموعة من خمسة أشخاص ينتمون للحزبين الديمقراطي و الجمهوري تقريراً لمعهد واشنطن حول العناصر الرئيسة للاستراتيجية الأمريكية الواجب اتباعها في الشرق الأوسط ركز على أمرين:

 أولهما اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع انهيار نظام الدولة في المنطقة العربية، و ثانيها ضرورة مواجهة المتطرفين السنة و الشيعة على حد سواء. استطرد البحث الذي كان أربعة من معديه مسؤولين كباراً في الإدارات الأمريكية بخصوص التعامل مع إيران موصياً بعقد اتفاق نووي شامل و الحد من انتشار التنظيمات الشيعية المدعومة من طهران و كذلك السنية المتطرفة، و المفارقة أن إدارة أوباما التي عقدت الاتفاق النووي مع طهران قبل أن يمزقه ترامب فتحت الباب لنسف كافة التوصيات الأخرى معبدةً طريق الوحش الإيراني و ميليشياته المسعورة لاستباحة المشرق العربي بالتزامن مع وحش القاعدة الوليد داعش.

ما يمكن استنتاجه من الحدث اللبناني بعد تكبير الصورة:

1-  إن حقيقة انتهاء صلاحية النظام الرسمي العربي إلى درجة ابتلاع حزب / ميليشيا لكيان الدولة في الحالة اللبنانية يتم بتعمد و برعاية أمريكية هي ذات الرعاية التي أفضت إلى نجاح الثورات المضادة لإرادة الشعوب؛ ما يعني أن باطن الاستراتيجية الأمريكية غير المعلنة هو استمرار مسلسل الدولة الفاشلة و التجربة العراقية خيرشاهد.

2- نتحدث هنا عن النموذج اللبناني الذي كان أنصاره يتباهون به بوصفه استثناءً ديمقراطياً في المشهد العربي بينما هو في عمقه و حقيقته مسخٌ طائفي وضعت أسسه كنواة يمكن استنساخها لاحقاً لتقويض كيانات المشرق العربي، و هذا ما حصل في نموذج العرقنة و قد يكون السيناريو الجاري إعداده لمستقبل سوريا أسوأ من اللبننة و العرقنة معاً إذا استمر الحال على هذا المنوال، بل قد لا نحتاج لطلب عودة الانتداب كما فعل فريق من اللبنانيين أو الحكم التركي كما يريد فريق من السوريين؛  لأن هذا سيكون أمراً واقعاً كما هو حال أتباع أوجلان في الجزيرة السورية تحت الانتداب الأمريكي غير المعلن دون أن ننسى الجزء الخاضع لوصاية أنقرة في الشمال الغربي.

  3- لم تعد واشنطن تكتفي بصناعة و توظيف الأنظمة العربية، بل تطورت هيمنتها لتصل إلى صناعة و توظيف المعارضات العربية و المعارضة السورية ليست استثناءً مع الأسف.

4- في ذات السياق، و إن كان الأمر ليس بجديد غير أنه ليس ملحوظاً من الجمهور المتعاطف مع الأصوليات الدينية بأشكالها تظهر قدرة واشنطن المذهلة على نشر و استخدام التطرف الديني بوجهيه الفكري و الحركي و إدارة هذا الخليط العجيب بما يخدم مشروعها لتحطيم البنى الدولتية و المجتمعية و الفكرية في المنطقة في محورين متوازيين سني و شيعي. بالتالي تمكنت واشنطن من توظيفنا أنظمة و معارضات و مذاهب بحيث بات السرطان الإسرائيلي خلية طبيعية في جسد المنطقة الشائه.

5- هذه هي الصورة في الغالب الأعم، و إن لم تكن مطلقة لكنها جعلت الهيمنة الأمريكية شبه مطلقة و العجز العربي بدوره شبه مطلق، و إلا لما كان تغوّل تنظيمات خارجة عن العصر و التاريخ مثل حزب الله و جماعة الحوثي و أشباههما مقابل طالبان و القاعدة وصولاً إلى داعش و النصرة أمراً ممكناً بأي حال. إنها الوجه الآخر للتغول الأمريكي و هي تلعب لعبته سواء بعمالة مباشرة أم بتواطؤ غير مباشر.

6- هذه القطعة من الصورة ليست سوى لقطة من المشهد الدولي و التغول الأمريكي فيه و رغم كل ما يمكن سوقه من أسباب ذاتية تعكس عيوبنا غير أن السبب الأبرز لهذا المآل و استعصاء التحول الديمقراطي و استعادة كيان الدولة المختطف هو إرادة صانع القرار الأمريكي؛ لذا أخشى أن نجاح أي ثورةٍ على مستوى دولة واحدة أو بضعة دولٍ على هامش السياسة الدولية كما في الحالة العربية بات من المحال ما لم تتخذ الثورة أشكالاً جديدة تستجيب لحجم التحدي الذي يمثله نفوذ الولايات المتحدة و أول صفات الثورة المطلوبة ألا تكون محليةً فقط بل ذات قاعدةٍ أوسع بكثير و حلفاء حقيقيين أقوياء.

بالتعبير الأمريكي الدارج ( أمريكا تلعب دور الإلهThe united states is playing GOD  ) ) و أمام هكذا صنم يجب التفكير خارج الصندوق، فقد فرضت الولايات المتحدة و المنظومة الرأسمالية متغيرات لم تكن موجودةً في عالم آبائنا القريب و الكارثة الأخيرة -و إن كانت بيروت مسرحاً لها- تشبه ذلك المقطع الصغير من لعبة تركيب القطع التي تقدم للأطفال لتجميعها ليوسعوا مداركهم و أفق رؤيتهم.

لقد خلقت واشنطن عالماً الحق فيه ما يتجانس مع مصالحها و الباطل فيه ما يصطدم مع إرادتها، و في حالتنا العربية و حالة الدور الإيراني الحزب اللاهي في لبنان و المشرق العربي، فهي توظف الإرهاب حين تشاء و تحاربه حين تشاء و تتقلب بين الحالين كما تشاء و رغم التقلب الظاهر في استراتيجيتها الشرق أوسطية كما حصل بين عهدي أوباما و ترامب حيث بلغ التنمّر الإيراني الحزب اللاهي أوجه غير أنها لم تحِد عن ثوابتها قيد أنملة و هي تتمثل بحماية إسرائيل و النفط و نفوذها في المنطقة، و قد سبق أن عبر الرئيس الأسبق نيكسون بكلامٍ فيه فصل المقال حين صرح بأنهم لا يذهبون إلى خارج الولايات المتحدة دفاعاً عن الديمقراطية أو الشرعية الدولية أو لمحاربة الدكتاتورية “بل نذهب إلى هناك لأننا لا نسمح أن تُمس مصالحنا الحيوية”.

و لأن واشنطن لن تسمح بمسّ مصالحها الاستراتيجية فمن السذاجة التي تبلغ حد الهذيان تفسير بعض الأحداث التي تبدو تحدياً لها و تهديداً لأمنها بأنه عدم امتلاك رؤية استراتيجية واضحة للمنطقة كما كان يقال في عهد أوباما الذي انتهج استراتيجية “القيادة من الخلف” و التخفف من أعباء الوجود المباشر، أو في عهد ترامب الذي اتبع استراتيجية “الانسحاب الإيجابي لصالح الاقتصاد” فلكل من يصل البيت الأبيض رؤية خاصة إنما لا يمكن أن تخرج عن مسارات الاستراتيجية الأمريكية المستقرة لمؤسسة الحكم. من هنا لا يمكن تخيل امتلاك جماعة الحوثي في اليمن القدرة على ضرب أرامكو السعودية أو اختراق حزب الله و بقية الميليشيات الشيعية الحدود الدولية في العراق و سوريا و إجراء تعديلات جيوسياسية و ديمغرافية جذرية فيما واشنطن تقف عاجزةً عن وضع حد لحلفاء طهران، و الكلام نفسه يقال بحق داعش و دولتها الهزلية في العراق و سوريا، فها هي واشنطن عندما تشاء تحرس جماعة أوجلان و كانتونها و إرهابها دون أن تجرؤ قوى إقليمية كبرى على رأسها تركيا على مس قسد؛ لأن واشنطن تقف في الجزيرة السورية بالمرصاد لكل من يهدد أمنها و نفوذها.

في التحليل الأخير فإن افتضاح دور طهران و رديفها حزب الله قد تجاوز التحليل ليصبح يقيناً لحظة استباحتهما لحدود دول المشرق العربي؛ لأن هذا خط أحمر اقتضى من قبل تأديب و سحق صدام حسين حين تحدى النظام الدولي باجتياح الكويت و ما كان لطهران و وكيلها اللبناني أن تبلغ بهما الجرأة تكرار التحدي و على مستوى إقليمي أوسع لولا وجود ما يتعدى التواطؤ إلى اتفاق و تفاهم من البديهي ألا يكون علنياً، غير أن رفع البصمات و تجميع القطع الصغيرة لا يمكن أن يقود إلا هذه الصورة الكبيرة للوحش الكبير المنفلت من أي عقال في واشنطن، أما الوحش المنفلت الذي يظهر في القطعة الصغيرة التي تسلط عليها الأضواء مشخصاً بحزب الله و من خلفه طهران فهو الشجرة التي تحجب الغابة.

 

مُناف الفتيّح

 

هامش

تضم المجموعة التي أعدت التقرير لمعهد واشنطن خمسة أشخاص من بينهم اثنان من مستشاري الأمن القومي السابقين، صمويل بيرغر وستيفن هادلي؛ والسفير الأمريكي السابق في العراق وتركيا جيمس جيفري؛ ومسؤول سابق في إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما ومبعوث السلام في الشرق الأوسط لفترة طويلة دينيس روس؛ والمدير التنفيذي لمعهد واشنطن روبرت ساتلوف.