شعور الروس بخداع الغرب لهم، أدّى إلى إصابتهم بما سمّي بــ ” متلازمة 1973 ” ( قرار مجلس الأمن بشأن ليبيا 2014، والذي سمح باستخدام القوة العسكرية لحماية المدنيين)، ولكنهم قاموا باستثمار هذه الإصابة في سورية، وهو ما جعل مجلس الأمن رهينة لقراءتهم لأحداث المنطقة والعالم، عبر استخدام حقّ النقض” الفيتو “، وعدم تمرير أي قرار لا يخدم إستراتيجيّتهم.
“أنا أعترض” حقّ تمتلكه خمس دول ( الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية ) دائمة العضوية في مجلس الأمن، وهي روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وأمريكا، يخوّلها “حقّ إجهاض” أيّ قرار وليس مجرّد الاعتراض. وأكثر الدول استخداماً له روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة إبان ما يسمّى الحرب الباردة بين القطبين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية.
مرّر الروس، وليسوا بمرغمين، فيما يخصّ القضية السورية قراري مجلس الأمن 2118 و 2254، وعطّلوا كل قرار يخالف قراءتهم لهما بـ ( أنا أعترض )11مرّة.. أمّا القرار الأخير 2401 بشأن وقف القتال لثلاثين يوماً في سورية لأغراض إنسانية، فيمثّل قمّة السخرية والاستهزاء بمجلس الأمن وكل ما يصدر عنه دون إرادتهم، إذ استمرّ اللعب الروسي سبعة أيّام، ما هي إلا تمهيد لاقتحام تستعدّ له قوّات النظام والميليشيات الإيرانية الداعمة لها، كانت حصيلتها أكثر من 550 ضحية من مدنيّي الغوطة، على الرغم من كلّ الضغوط، فمن غوتيرس الذي كاد يبكي وهو يقول: الغوطة هي الجحيم على الأرض، إلى كل ممثّلي الدول في مجلس الأمن، بالإضافة لقادة الدول الفاعلة والمؤثّرة في الصراع، والذين حمّلوا الروس والنظام وإيران مسؤولية ما يحدث من إبادة ودمار، وكذلك المنظمات الإنسانية والحقوقية ووسائل الإعلام والتحرّكات الجماهيرية في كل مكان تواجد فيه سوريّون.. ليصدر بعد ذلك قراراً خالياً من الفعل والأثر، مسحوب الدسم، وبشروط ومطالبات لا علاقة لها بالغوطة ومعاناتها، فكان إقراره وعدم إقراره سيّان، إذ لم يتغيّر على الأرض شيء، إلا بداية اقتحام برّي يُضاف لآلات القتل السابقة. وربّما ما كان لطائرة ” سو 57″ فخر الصناعة العسكرية الروسية – وقد وصلت حميميم قبل يومين – لتقوم بالتجربة الأولى في استعراض قدراتها في الغوطة الشرقية، لولا البراعة التي وصلت حدّ النذالة في استغلال واستثمار هذا الحقّ الذي مُنح لروسيا وريثة ” فيتو ” الاتحاد السوفييتي، لاستمرار المقتلة السوريّة.
إدارة الروس للصراعَين الدبلوماسي والعسكري يتوازيان في الحالة السورية، ففي مجلس الأمن يفرض الروس كلمتهم، وفي الغوطة ينفّذون مشيئتهم، إذ يطلبون اجتماعاً طارئاً لمجلس الأمن في الوقت الذي يكون مشروع القرار الكويتي-السويدي باللون الأزرق، لتطويق تحرّك الآخرين بمشروع قرار يتضمّن رؤيتهم، مهدّدين العالم بلغة الدبلوماسية: (روسيا تريد، وإلّا، روسيا تعترض)، وهو ما جعلهم يهربون إلى الأمام بضربة استباقية، يعطّلون بها إرادة المجتمع الدولي، وتحقّق مبتغاهم، فمرّروا القرار هزيلاً بعدما أنهت طائراتهم وصواريخهم وقوات حلفائهم على الأرض المهمّات جميعها، فلفتوا الانتباه عن العملية السياسية، ونفّسوا الجهد الدولي في القضية السورية، مبرّئين أنفسهم وحلفاءهم، ومتباكين كضحية في هجومهم على المنظمات الدولية وعدم فعاليتها على الأرض، فأثبتوا مجدّداً حقيقة أن الهجوم خير وسيلة للدفاع.
وبالإجماع يصدر القرار 2401 ليؤكّد الروس أنهم الفاعل الوحيد على الأرض، بعد كلّ ما قِيل عن مسؤوليّتهم والنظام وإيران في استهداف المدنيين الممنهج، وأن الغوطة ستكون مقبرة الأمم المتحدة، وتوسّل الروح الإنسانية في التعامل مع الأمر، وصولاً إلى جعل ما تقوم به روسيا وحلفاؤها وصمة عار على جبين الإنسانية، ولكن إرادة الروس تُنفّذ هدنة بوتين ( خمس ساعات ) لإفراغ الغوطة من سكانها، وبالتالي إفراغ 2401 من مضمونه الملتبس في الأصل، وهو ما قصده ” نبنزيا” المندوب الروسي بقوله: ( لسنا بحاجة لقرارات، نحن بحاجة لإجراءات واقعية تنفّذ على الأرض ).
ولن ينفع القول: إن الهدنة بالمفهوم الروسي مخالفة للقرار2401، مادامت روسيا حقّقت أهدافها في التحدّي الصارخ للمجتمع الدولي ومجلس الأمن، وجعل القرار رخصة دولية لقتل السوريين بلا حساب، واستخدام كل أنواع الأسلحة، بما فيها غاز الكلور والنابالم، وتجريب المزيد من الحديث المطوَّر، وإشهار إرادتهم بجعل عملية سحق الغوطة تجري بلا استعجال، واستثنائها –إيرانياً- من الهدنة مادام الإرهابيون فيها، وهي التي تمنعهم من الخروج، وتغييبها، بل تعطيلها لأي إرادة تنفيذ للقرار أو ضامن لتنفيذه.
بالتأكيد ستستمرّ الحال كذلك، بمقاومة العين للمخرز، صمود الجوعى لا بالركوع، ريثما تنتهي الانتخابات الروسية 18آذار حيث يتمّ تنصيب قيصر روسيا، بينما 2401 ينتظر داخل ثلاجة الموتى في أروقة المنظمة الدولية موعد دفنٍ تحقّق لحظة صدوره.