عنب بلدي:22/3/2020
على اعتبار أن الحديث عن الفيروسات يحتل الإعلام العالمي، فلا بد من الإسهام بالنقاش، بالحديث عن أخطر فيروسين تسببا بتخريب الرقة مع القوى الدولية التي انهالت عليها بالدمار الشامل، بحجة مقاتلة الإرهاب!
الفيروس الأول هو مساعد سابق في المخابرات الجوية، مُنح شهادة دكتوراه بالمراسلة من روسيا، وعُيّن محافظًا للرقة بين عامي 1980 و1987، إنه محمد سلمان، الذي فتح الباب للدخول الإيراني في الرقة، وأقر القاعدة الأولى والأكبر لإيران في الجزيرة السورية، وهي مزار أويس، الذي افتتحه لاحقًا الرئيس محمد خاتمي، واعتبرته إيران قاعدة متقدمة للانتقام من أهالي المنطقة، لأن أجدادهم قبل ألف وأربعمئة سنة لم يقفوا مع الإمام علي في صراعه على السلطة مع معاوية بن أبي سفيان، ناسين أن أهالي الرقة تغيروا عدة مرات بسبب الحروب والكوارث، وأن المدينة الجديدة لا يرجع تاريخها إلا إلى عام 1860، عندما بدأ الفقراء والمهاجرون يقطنون قرب مخفر للشرطة بنته الدولة العثمانية في الموقع، لحماية طريق حلب- بغداد من قطاع الطرق واللصوص، لكن النهج الطائفي والعداء القومي الذي تكنه جمهورية الملالي للمنطقة، لا يمكن أن ينسجم مع أي نقاش أو منطق!
اصطحب محمد سلمان معه إلى الرقة ضابطًا في المخابرات العسكرية اسمه عزيز، وكان رجلًا شبه أبله، مولعًا بدور الجلاد، وتابعًا لمحمد سلمان الذي بنى صيته في المحافظة بتهديد الناس والنخب وإرهابهم بوحشية عزيز.
وعزيز هذا لم يكن يتورع عن جلد ضيوفه في مكتبه، وعلى مسمع من المنتظرين دورهم في استدعاءاته التي لا تنتهي أبدًا، ومن نجا من الضرب أو الاعتقال فإنه يخضع لمحاضرة مطولة تشبه محاضرات بشار الأسد التي تبدأ ولا تنتهي، وبلا أي معنى، اللهم إلا التهديد المبطن أو العلني في النهاية.
محمد سلمان الذي كان من تلاميذ “علي دوبا”، حصد الموالين للسلطة قبل المعارضين، فقد اعتقل قيادات حزب البعث في الرقة، ولفق لهم تهمًا بتشكيل عصابات إرهابية، وتفجير خطوط البترول، ووزع على الناس تهمة شبه موحدة، وهي الانتماء إلى “بعث” العراق، تلك التهمة التي حصدت آلاف الناس من سكان الجزيرة السورية، إذ كان محمد سلمان مسؤولًا أمنيًا لمحافظات الرقة ودير الزور والحسكة بالإضافة إلى وظيفته كمحافظ للرقة، حتى إن سلمان اعتبر الأغاني الشعبية أغاني عراقية، وكان يتهم من يبيع “كاسيتاتها” أو يروج لها بأنه عميل للبعث العراقي، وكانت المعتقلات السورية حينها تعج بالمعتقلين الذين يُصنفون باليمين (المنحرف)، كناية عن تهمة الانتماء إلى “بعث” العراق، بالإضافة إلى معتقلي اليمين (المشبوه) وهم الذين لُفقت لهم تهمة الانتماء إلى “الإخوان المسلمون”، بالإضافة إلى معتقلي الأحزاب الشيوعية التي رفضت الدخول إلى زنزانة الجبهة الوطنية التقدمية!
نهب محمد سلمان المال العام باستدراج مشاريع غير أساسية، ولا تساعد على تنمية المنطقة، بل مشاريع للاستعراض ولكتابة أسمائها في مواضيع الإنشاء المدرسية، كإنجازات للحركة “التصحيحية”، وارتقى من مجرد مساعد في المخابرات إلى رجل ثري بنى معامل المعكرونة وشارك في الصحف الإعلانية، واللوحات الطرقية، وتفاقم ثراؤه بعد أن أصبح وزيرًا للإعلام، وكان أول انجازاته بناء سور للإذاعة والتلفزيون، وتحدثت الصحف والناس عن فلكية الأرقام التي صُرفت عليه، وكان سلمان قد اصطحب المقاول من الرقة، وهو أحد شركائه، وقد نهبه سلمان لاحقًا فمات قهرًا.
الفيروس الأول جاء باسم التقدم والاشتراكية ودعم إيران والاتحاد السوفيتي “الصديق”، وما إلى ذلك من شعارات حافظ الأسد، التي تعني عكس ما توحي به في أغلب الأحيان.
أما الفيروس الثاني فجاء باسم الدين الإسلامي واعتبر نفسه خليفة المسلمين، ووعد الأمة بفتح روما عن طريق مفرق (مرج دابق- اسطنبول)، واعتبر الناس كفارًا ومرتدين حتى يدخلوا في بيعته، حينها سيغفر لهم ذنوبهم مهما كانت بمجرد مبايعة الخليفة المختبئ في فرع من فروع التحقيق التي تعج بالتعذيب وبالقتل المجاني.
ذاك هو أبو بكر البغدادي، الذي شارك مجموعة من منظري السلفية الجهادية، ومجموعة من ضباط المخابرات العراقيين المسرّحين بعد الاحتلال الأمريكي لبغداد، ونقل البغدادي قادتهم معه إلى الرقة باعتبارها عاصمة خلافته!
أهم شعار رفعته دولة البغدادي التي تدعى “داعش” هو التكفير، الأداة القاتلة التي تبطش بها بالناس وتحاسبهم على كل حياتهم منذ ولدتهم أمهاتهم، وجندت لذلك مخبريها واستخدمت الابن ضد أبيه، والجار ضد جاره، تمامًا مثل دولة “البعث” القومية الاشتراكية، ومثلما فعلت دولة البعث في الستينيات حين أممت المعامل والمصانع والأراضي واغتصبتها من أصحابها، فقد اغتصب البغدادي بيوت الناس وأملاكهم بحجة أنهم كفار ومرتدون، واعتبر أن المهاجرين الذين يتوافدون إلى دولته أحق بها من أهلها.
واستفادت “داعش” مما بناه محمد سلمان في حقبته المخابراتية، حينما كان يفتخر مع تابعه عزيز بأن لديهما أكثر من ثلاثين ألف مخبر في الرقة وحدها، فقد استثمر البغدادي ما زرعه محمد سلمان بكسر الروح المعنوية للناس، والنخب، والشخصيات العامة في المدينة، وبما زرعه من مجموعات المخبرين الذين سرعان ما انقلب معظمهم لتأييد “داعش”، وصاروا يعملون لمصلحتها، وكانوا جيشًا جرارًا في إذلال الناس ومعرفة تفاصيل حياتهم، ما أجبر مئات ألوف السكان على النزوح والهجرة من الرقة، فأرشيف خصوصيات الناس نُقل من المخابرات العسكرية والمخابرات الجوية والفرق الحزبية، إلى النقطة 11 كما كان يسمى مجمع المخابرات “الداعشي” في الرقة!
ما إن تمددت الدولة “الداعشية” وبدأت بتنفيذ عمليات إرهاب خارجية حتى هبت دول التحالف الغربية مجتمعة ودمرت ثلاثة أرباع مدينة الرقة، وقتلت أكثر من ستة آلاف من أهلها المدنيين، وعقدت صفقة لترحيل مقاتلي “داعش” للاستثمار في أماكن أخرى، وقد خرجت قافلة مقاتلي “داعش” وأهاليهم بطول سبعة كيلومترات كما صورتها الأقنية العالمية ومنها “بي بي سي” البريطانية.
رحلت قافلة “داعش” تاركة مدينة الرقة مدمرة، ومهجورة، كما لم تفعل أي فيروسات في التاريخ، فهذا التكامل بين عمل محمد سلمان والبغدادي تطور من إخضاع المدينة إلى تدميرها وبتكامل في الأهداف وبالنهج العدواني.
فهل يقل خطر الفيروسات البشرية من أمثال سلمان والبغدادي، عن خطر فيروس “كورونا” أو عن غيره من الفيروسات؟