تمرّ، يوم 23 هذا الشهر، الذكرى التاسعة لمجزرة الأربعاء الدامي التي ارتكبها جيش النظام السوري وأجهزته الأمنية في محافظة درعا، وكانت حصيلتها 60 شهيدا ومئات الجرحى، وترافقت أيضاً مع اقتحام المسجد العمري؛ فسجّلت تلك الوقائع ثلاثة مؤشرات مبكرة ذات دلالات كبيرة في تعريف مشهد الانتفاضة الشعبية: أنّ تراث مجازر آل الأسد، في عهد الأب والوريث معاً، مستمرّ وغير منقطع؛ وأنّ السلوك السلمي للمتظاهرين كان واضحاً وسائداً وخالياً من أيّ سلاح، بما في ذلك العصيّ؛ وأنّ النظام تعمد المضيّ أبعد في إسقاط رمزية خاصة، تستأنف سوابق أخرى في تراث حكم حزب البعث، هي انتهاك حرمة المساجد.
وخلال السنوات الثلاثين من حكم حافظ الأسد أُريقت دماء السوريين مراراً، بدم بارد، في صيغة مجازر جماعية واسعة النطاق؛ في حماة وحلب وجبل الزاوية وسرمدا ودمشق وتدمر… لم يكن جديداً، إذن، أن يستأنف بشار الأسد هذا الإرث الدامي في محافظة درعا بطرائق ليست البتة أقلّ همجية، وإنْ كانت تنهض على مقاربة تختلف بهذا المقدار النسبي أو ذاك؛ بسبب من متغيرات شتى تخصّ الشارع الشعبي، والمحيط الإقليمي، وأنساق التواصل، ومناقلة المعلومات، وسطوة الصورة؛ فضلاً، بالطبع، عن صفات تخصّ شخصية الوريث ذاته، بينها الطيش وقلّة الخبرة والغطرسة وقصر النظر والفذلكة واستيهام التأييد الشعبي. ولن يطول الوقت قبل أن تتكشف هذه الصفات على نحو أشدّ جلاء في خطاب الأضاليل الأوّل الذي ألقاه الأسد أمام ما يسميه النظام «مجلس الشعب»، تعليقاً على الانتفاضة.
يومذاك ابتدأ الخطاب من إصرار الأسد على مخادعة نفسه بنفسه، ومناقضة تصريحات كان قد أدلى بها قبل أسابيع قليلة لصحيفة «وول ستريت جورنال»، حول أولويات الإصلاح، وجداوله الزمنية التي قد لا يقطف ثمارها إلا أبناء جيل لاحق؛ فضلاً، بالطبع، عن حصانة نظامه ضدّ ايّ تحرّك شعبي، بالنظر إلى انضوائه في محور «المقاومة» و«الممانعة». وفي ذلك الحوار، كما في خطابه الأوّل، اعتبر أنه إذا لم تكنْ قد بدأتَ بالإصلاحات منذ زمن سابق على انتفاضات العرب، فإنك قد تأخرتَ الآن، وستبدو إصلاحاتك بمثابة خضوع للضغط الشعبي؛ والدولة التي تخضع لضغوط الداخل، يمكن أن تخضع أيضاً لضغوط الخارج. ولقد تفذلك كثيراً وتفلسف أكثر حول توقيتات الإصلاح ومعانيه وتعريفاته، متجاهلاً أنّ خروج شرائح واسعة من أبناء الشعب السوري إلى الشوارع يقول، أوّلاً، إنّ المواعيد الإصلاحية لم تتأخر عن عام 2005، حين أوصى مؤتمر البعث القطري العاشر بسلسلة إجراءات، فحسب؛ بل تأخرت عن سنة 2000، حين تولى الوريث السلطة من أبيه؛ وكذلك عن 41 سنة من حكم «الحركة التصحيحية».
لكنّ الأسد الابن، حين أعطى أوامره لأجهزة الأمن باستخدام الرصاص الحيّ ضدّ المتظاهرين في درعا، واختار وحدات خاصة في الجيش لاقتحام مسجد المدينة العريق وسفك المزيد من الدماء في باحته وداخل جدرانه؛ كان قد حوّل مبدأ المجزرة وإراقة الدماء وانتهاك المقدسات وهتك الأعراض، وسواها من الممارسات الفاشية، إلى فواصل قاطعة بين نظامه وبين الشعب السوري، في الغالبية الساحقة من مناطقه وطبقاته وإثنياته وأديانه وطوائفه. كذلك كان يدقّ ثلاثة مسامير، على الأقلّ، في نعش نظام آيل إلى تفكك وضعف وانعزال وتبعية للخارج؛ قبل شهور عديدة من وقوع الانتفاضة الشعبية تحت متغيرات التسلّح والعسكرة والتأسلم وسوء التمثيل السياسي وركاكة المعارضة الخارجية وارتهاناتها.
كان المسمار الأوّل هو الاطمئنان، الناجم بالضرورة عن اختلاطات الطيش والغطرسة والنرجسية، إلى أنّ هذا الحراك الشعبي، في دمشق وبانياس ودير الزور وحمص والقنيطرة، قبل درعا، لا يمثّل إلا فئة من «المندسين» و«العملاء»؛ لأنّ الشعب بأسره يحبّ «الرئيس»، بدلالة الشعار الذي تغصّ به شوارع سوريا: «منحبّك»! وكان أمراً تلقائياً، أو بالأحرى غريزياً، أن يفضي ذلك الاطمئنان إلى يقين الدكتاتور، وناصحيه من شركاء النهب والحكم العائلي، بأنّ علاج هذه «الفرقة الضالة» يحتاج إلى خيار الأرض المحروقة، والبتر المبكر، على الفور، دون أي ترجيح حتى لاحتمال العلاج بالكيّ؛ مع تطوير «منحبّك» إلى الشعار الفاشي الأخبث والأحقر: «الأسد أو نحرق البلد». ولقد كان مذهلاً، حتى لأصدقاء النظام الإقليميين (رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي يومذاك، على سبيل المثال، وللتذكير المفيد!)، أن يلجأ النظام إلى الذخيرة الحية في مواجهة أوّل تظاهرة سلمية نوعية، وأن يسقط أربعة شهداء في ساعات قليلة.
المسمار الثاني كان الاستهانة بالمغزى الرمزي، قبل ذاك الديني، لاقتحام مسجد أوى إليه جرحى ومواطنون لا يحملون حتى الحجارة، وليس لهم أن يتسببوا بأي أذى للمفارز الأمنية والوحدات العسكرية التي تطوّق المسجد. ولكي تُضاف الإهانة إلى الجرح، وتُخلي المأساةُ مشهدَها الدامي لصالح مهزلة سخيفة، مكرورة مستهلكة، دخلت عدسات إعلام السلطة إلى المسجد كي تفبرك «ضبط» الأموال والأسلحة المخزّنة هناك، والتي وصلت إلى «المندسين» من جهات خارجية. من جانبه كان طالب إبراهيم، أحد أبواق السلطة، قد اخترع إشاعة العثور على رياض الترك (الأمين العام لـ«رابطة العمل الشيوعي»، كما وصفه ذلك الفهامة العبقري!)، متواجداً داخل المسجد؛ مما يعني أنّ الشيخ السلفي أحمد صياصنة، كان ينسق مع الشيوعي العلماني رياض الترك في التآمر على النظام!
المسمار الثالث كان احتقار الذاكرة الشعبية السورية، عن طريق اقتراح حلول تنطلق من افتراض الدرجة صفر في الذكاء الأخلاقي للمواطن السوري، أو الدرجة صفر في كرامته الوطنية؛ كما حين اختار الأسد أن يكون وسيطه في الحوار مع أهل درعا هو اللواء رستم غزالي، أحد كبار أدوات الفساد والاستبداد، دون سواه! وفي كلّ حال، بينما كان «الوسيط» يسعى إلى ممارسة مهاراته في التفاوض، كما اكتسبها من سيّده السابق اللواء غازي كنعان، كانت وحدات عسكرية خاصة قد تلقّت لتوّها الأوامر بحصار المدينة، وقطع الكهرباء عنها، وكذلك اتصالات الهاتف المحمول والإنترنت، تمهيداً لارتكاب المجزرة في المسجد العمري، بعد ساعات قلائل. ولن يكون المصير اللاحق الشنيع الذي سيلاقيه غزالي على أيدي رجال النظام، ربيع 2015، سوى دليل متأخر فقط على ما كان أبناء سوريا يدركونه جيداً: أنّ هذا، وسواه كثر من عبيد آل الأسد، ليسوا أكثر من بيادق صغيرة في بيت السلطة المقتصر على نخبة النخبة.
واليوم، بعد تسع سنوات، ومجازر كثيرة متعاقبة خلّفت مئات آلاف الشهداء، وتهجير الملايين داخل سوريا وخارجها، والتسبب في خراب عميم، واستخدام سلاح كيميائي وبراميل متفجرة، وخضوع يصبح شبه تامّ لإرادة موسكو، وركوع كامل أمام طائرات دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبعثرة سوريا بين احتلالات إسرائيلية وروسية وإيرانية وأمريكية وتركية… بعد هذا كله، وسواه كثير، لم يتوقف الأسد الابن عند تذكير الناس بكلّ ما انطوت عليه عقود الأسد الأب من قمع وفساد ونهب وتخريب؛ للسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والنسيج الوطني والسلم الأهلي. بل لقد ذهب أبعد وأسوأ، واختار من ألوان الاستبداد ما هو أشدّ فظاظة تجاه كرامة المواطن، من جهة أولى؛ وأكثر خفّة واستهتاراً بحاضر سوريا العربي والإقليمي والدولي، من جهة ثانية. الأمر الذي يحيل إلى فرضية أولى مشروعة: أنّ الذكرى التاسعة لمجزرة الجامع العمري إنما تذكّر بأنّ انتفاضة الشعب السوري في ربيع 2011 كانت ضرورة تاريخية واجبة، وهكذا تبقى اليوم أيضاً؛ قصر الزمان أم طال.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس