ستضطر الدول وقادتها إلى إعادة اختراع الذات بغض النظر إذا انتمت إلى معسكر الاستمرار في الإغلاق التام لأن الأولوية القاطعة هي للصحة العامة، أو إلى معسكر ضرورة البدء بفك الإغلاق لأن انهيار الاقتصاد يدمِّر الحاضر والمستقبل ويعطب بالعمق الوضع النفسي والصحي والعقلي للمجتمعات.

لن يكون في الوسع العودة إلى تنفيذ السياسات العريضة التي وضعتها الدول قبل قدوم كوفيد-19 لأن هذا الفيروس أعاد خلط معايير العولمة وصفع خُطط تموضع الدول عالمياً، غنيةً وقويةً كانت أو فقيرة وضعيفة.

فيروس كورونا عرّى الأمم المتحدة ووكالاتها الخاصة، بما في ذلك منظّمة الصحة العالمية، وكشف ليس فقط عجزها وإنما العَفَن الذي أصابها عبر البيروقراطية القاتلة وبسبب تدنّي المستوى المهني للعاملين في هذه المنظمات الدولية التي يُنفَق عليها مليارات الدولارات وهي تجّتر نفسها بدلاً من إصلاح العطب فيها. المرحلة المقبلة ستصعق الجميع مع اختلاف النسبة والتأثير. منظّمة الصليب الأحمر الدولي حذّرت من عواقب وخيمة وخصّت بالذكر الدول الضعيفة في منطقة الشرق الأوسط، ذكرت منها سوريا واليمن وفلسطين والأردن والعراق وإيران ولبنان. قالت إن هذه الدول ليست فقط ضحية فيروس كورونا من ناحية الضعف البنيوي في منشآتها الصحية والاجتماعية وإنما أيضاً معرّضة لأن تشهد اضطرابات اجتماعية وسياسية عنيفة كردّة فعل على رداءة تعاطي حكوماتها مع الأزمات بما فيها تلك التي ولّدها هذا الوباء. هذه الدول الركيكة أو الفاسدة أو الخاضعة للإيديولوجيات المتطرّفة أو المتورّطة في نزاعات ليست وحدها في دائرة الخطر، لكن قُصر النظر في بعض عواصم هذه الدول هو الذي يجعلها مرشّحة لأن تصبح دولة فاشلة بقرارٍ من سياسيين أعمى بصيرتهم الجشع والغطرسة المريضة – كما هو الحال في لبنان.

الدول الصناعيّة والغنية منصبّة على معالجة الدمار الذي يتركه وباء كورونا في ديارها من البطالة الى الركود الى انحسار أسعار النفط، وهي ليست في وارد الإقبال على مساعدة الدول الركيكة كأولوية. هذه الدول مضطرة الى إعادة اختراع نفسها وإعادة رسم السياسات البعيدة المدى التي كانت قد اعتمدتها- الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، وأوروبا، وبقية الدول الأعضاء في مجموعة العشرين كلّها تبحث عن هوية لها في زمن ما بعد كوفيد-19 الذي أطاح بمفاهيمٍ ولّت وهو يفرض الرضوخ لإصلاحات جذرية محلّيّة وكونيّة.

النقاش يصبح حاداً كلّما كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب جزءاً منه، فهو رجل مثير للجدل وللمشاعر العنيفة ضده أو معه. إعلانه تعليق المعونات الأميركية لمنظمة الصحة العالمية احتجاجاً على أدائها وانحيازها الى الصين لاقى انقساماً أميركياً وكذلك عالمياً. معظم المواقف دانت أو استاءت من حجب المساهمات المالية الأميركية عن المنظمة سيّما وأن العالم أجمع يواجه هذا الوباء معاً. لكن قيادات عالمية عديدة وافقته الرأي ضمناً لأن أداء منظمة الصحة الدولية كان فعلاً تحت المستوى المطلوب علماً أنها تحصل على حوالى 6 مليار دولار كل سنتين للقيام بأفضل مما قدّمته من تشخيص بطيء للفيروس ومن توصيات بلا فعالية. كان على هذه المنظمة أن تتصرّف بمستوى الحدث وأن تتقدّم بخطة عالمية بدلاً من الانزلاق، كالعادة، الى الاعتبارات السياسية وتلبّي حساسيات دول مثل الصين. وللسجّل، ان الصين تقدّم 57 مليون دولار للمنظمة واليابان 41 مليون دولار، والمانيا 29 مليون، وفرنسا 21 مليون، وإيطاليا ما يقارب 16 مليوناً، والبرازيل 14 مليون دولار فيما تقدم الولايات المتحدة 115,8 مليوناً. إنما بغض النظر عن نسبة الهِبات، يجب على الدول أن تُطالب منظمة الصحة العالمية بأداء أفضل وتدفعها الى أن تتعلم درساً مهماً – حتى وان كانت تنتقد قرار ترامب أو تطلب منه إعادة النظر.

ليست وحدها منظمة الصحة العالمية التي تحتاج إعادة هيكلة ما بعد كوفيد-19 بل ان الأمم المتحدة برمتها ووكالاتها الخاصة يجب إما إعادة اختراعها أو الإقرار بأنها باتت عبئاً بيروقراطياً مُكلفاً بلا فائدة. انه نموذجٌ اضمحلَّ على مدى السنوات الماضية تدريجيّاً بسبب طبيعة مجلس الأمن الدولي لربما بالدرجة الأولى، إنما هذا لا يعفي كامل الدول الأعضاء ولا الأمانة العامة التي تدهورت إلى اللاوجود منذ أن تولّى أنطونيو غوتيريش مهام الأمين العام قبل ثلاث سنوات.

لن يتمكن الاتحاد الأوروبي من التظاهر بأنه ماضٍ في سبيله كالعادة ليس بسبب مغادرة بريطانيا له بقدر ما أصابه وسيصبه من تفكّك الأمر الواقع بسبب كوفيد-19، اقتصادياً واجتماعياً. لن تكون الدول الغنية المنتمية الى مجموعة العشرين G-20 قادرة على السير الى الأمام على الأسس التي كانت موجودة قبل وباء كورونا.

مجلس التعاون الخليجي سيضطر الى اعادة دراسة مفاهيمه ومقوّمات وجوده في ظل ما سيصيب الدول الست الأعضاء فيه نتيجة كوفيد-19 وكذلك نتيجة انزلاق أسعار النفط ليس حصراً بسبب حرب أسعار النفط بين روسيا والسعودية وإنما بسبب تكدّس النفط في الاحتياطي عالمياً نتيجة الانخفاض العنيف لنسبة الطلب بسبب فيروس كورونا.

أندريه فيدوروف، نائب وزير الخارجية الروسي الأسبق ورئيس “صندوق الأبحاث والاستشارات السياسية”، يتوقع امتلاء احتياطي النفط في روسيا والولايات المتحدة وبقية العالم لدرجة “الاضطرار الى التخلّص منه بأي ثمنٍ كان، حتى وان بلغ السعر الصفر”، والسبب هو انه “ليس في الوسع ايقاف الإنتاج في الأنابيب”. يقول ان هذا قد يحصل بعد 4 أسابيع، وعليه، “مع نهاية أو منتصف أيار/مايو، ستكون هناك أزمة نفط جديدة إذا لم يكن في الإمكان العودة الى الإنتاج”. ويُحذر انه إذا وصلنا الى نقطة الصفر في أيار/مايو “لن تكون فرصة إعادة اقلاع الاقتصاد العالمي واردة بدون خسارات فادحة”.

قادة معظم الدول يتحركون بحذر بالغ خوفاً من فقدان فرصة اقلاع الاقتصاد مجدداً، وبالتالي الانهيار. شهر أيار/مايو يبدو التاريخ الذي يصبو اليه القادة لعلّه يكون الموعد مع العودة الى العمل وبدء العد العكسي الى انهاء البطالة المدمِرة للاقتصاد في الولايات المتحدة بالذات حيث بلغت البطالة 20 مليون نسمة وكلفة استمرارها عنيفة على الاقتصاد وكذلك على فِرص دونالد ترامب بالفوز بالانتخابات الرئاسية. أميركا ليست وحدها من يراقب بخوف احتمال استمرار الإغلاق إذا فرض فيروس كورونا عليها المضي به. ذلك ان “عدم اعادة فتح الولايات المتحدة قريباً سيقتل الاقتصاد العالمي برمته”، يقول فيدوروف.

روسيا، يضيف فيدوروف، “ليست قادرة على لعب دور في الأجندا الاقتصادية العالمية بسبب النفط وكذلك بسبب وطأة الأزمة الاقتصادية العالمية”. لذلك بدأ الحديث في موسكو حول اعادة صياغة أولويات السياسة الخارجية الروسية “فلا أحد يبالي الآن بأولوية نزع السلاح” والحديث يصب بإعادة فرز ما فرضه وباء كورونا على العولمة وعلى الاقتصاد العالمي.

الفرصة متاحة بين أيار/مايو وبين الخريف لإعادة إطلاق الاقتصاد بدلاً من بقائه مكبّلاً فتفوت الفرصة. فالصين تتوقع موجة جديدة من الإصابات في الخريف. قيادات العالم تتأهب خوفاً على بلادها وخوفاً على مصيرها في بعض الأحيان.

السؤال الذي يُطرح في اطار منطقة الشرق الأوسط هو هل سيفرض فيروس كورونا على الدول أن تعيد النظر في سياساتها وتقرر ان اعادة اختراع النفس هو الوسيلة للإنقاذ؟ إيران أولى الدول التي أصيبت بالوباء في الشرق الأوسط ووجدت ان حتى في هذه الظروف الاستثنائية، لن ترفع الولايات المتحدة العقوبات عنها ولن تقفز أوروبا على تلك العقوبات. القيادة الإيرانية لربما دُهِشت واستاءت، لكنها أيضاً استنتجت أن لا مجال لرفع العقوبات عنها ما لم تبدّل من سياساتها الإقليمية والنووية والصاروخية.

الدول الخليجية العربية بدأت التفكير في أوضاعها في زمن ما بعد كورونا. بعضٌ منها سيدفع ثمناً اقتصادياً باهظاً، وبعض آخر أدرك أن الإصلاحات الجذرية الاجتماعية والاقتصادية باتت ضرورية كي يكون في الإمكان امتصاص الصدمات في المستقبل ومن أجل بناء المرونة للتأقلم مع حدثٍ رهيب حلّ بالعالم وفرض العودة إلى طاولة رسم السياسات.