نحن اليوم، أمام مشهد جديد في الملف السوري، ليس بسبب تفعيل قانون قيصر-على أهميته في وضع حدٍّ لجرائم الأسد وحلفائه -بل لأن نظام الأسد يفقد كل يوم ما تبقى من قدرته على إدارة الحكم، ويتكشف عجزه أكثر عن تلبية احتياجات من يحكمهم بالقهر، ويتخبط يائساً للخروج من أزماته المتلاحقة وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية والمالية الطاحنة، التي يترنّح تحت وطأتها. وعلى وقع تزايد الشروخ والتصدعات التي وضعته في مواجهة أخطر التحديات التي تهدد وجوده واستمراره، بعد أن انفجر الصراع داخل عصبته العائلية والطائفية، وانتقل إلى صفوف حاضنته من الموالين والأنصار.

          بعد أن أغلقت العقوبات المتوالية، والتطورات الإقليمية في كل من العراق ولبنان وإيران، كل المنافذ التي كانت تيسّر له عمليات غسيل الأموال وتوفير السيولة لمواصلة جرائمه ضد الشعب السوري، يصارع النظام اليوم مستميتاً للإبقاء على الليرة السورية على قيد الحياة، وسط مؤشرات مخيفة عن حالة الانهيار المتسارع للأوضاع الاقتصادية والمعيشية مما يجعل من هذا المسعى أمراً ميؤوساً منه. ولا نعتقد أن التطورات العاصفة ستمنحه متسعاً من الوقت للمضي فيه، قبل أن تعاجله ضربات الداخل السوري المحتقن، التي أطلقت بواكيرها صرخات المحتجين من أقصى الجولان إلى ديرالزور مروراً بالسويداء ودرعا وإدلب ومناطق أخرى هاتفةً بإسقاط النظام وتعجيل رحيله، وهي ليست سوى مقدمة لانفجارات شعبية عارمة من الصعب تطويقها واحتواؤها ولاسيما بعد سقوط كذبة “حماية الأقليات” وانقلاب الحاضنة السياسية عليه بسبب عجزه وفساده وفراغ يده من أية تدابير تسكت صرخات الموجوعين والجائعين. 

    حدث هذا قبل وضع قانون قيصر موضع التطبيق، وفي ظل تواتر الحديث مؤخراً وتسريبات تؤكدها الوقائع، عن وجود مفاوضات ومشاورات سرية بين الروس والأمريكان لوضع نهاية لحكم الأسد، وأن الإعلان عن بدء تفعيل قانون قيصر ليس سوى فاتحةٍ لفصولها. إلا أن الطريق للوصول إلى تفاهمات دولية تخص الشأن السوري برمته، ومن ضمنها مصير الأسد ودائرته المقربة، مازال محفوفاً بالعوائق والعقبات، وتخضع جداولها الزمنية لاعتبارات تخص مصالح ومواقيت الدول الفاعلة، وعلى رأسها الانتخابات الأمريكية ومحاولات موسكو لبيع الأسد مقابل حل ملفاتها الحيوية مع الغرب عموماً ومع الإدارة الأمريكية بوجه خاص. 

        ثمة ميلٌ موضوعي عام، كمحصلة لمقاربات دولية، باتجاه ضرورة الإسراع في تفكيك البنية المتهالكة والآيلة إلى السقوط لما تبقى من نظام الأسد، تحاشياً لانهيار مفاجئ وشامل من غير المرغوب حدوثه. وإن الصفقات والمساومات تجري على نطاق واسع للاتفاق على قواسم مشتركة بهذا الاتجاه، ولكن وفق سيناريوهات آمنة، تبدأ بإزاحة الأسد كعقبة مشتركة، وكمقدمة لابد منها تفتح الباب لمعالجة قضايا أخرى في الأزمة. ولعلّ من العوامل التي ستسرع في حصول انهيار للنظام تحت ضربات الداخل السوري بعد تفجر الأزمات المتراكمة هو أن محصلة الضغوط الأمريكية والروسية على الأسد لإجباره على القبول بالحل السياسي لن تثمر ما لم تترافق بسطوة القوة. فالأسد الذي صارع الشعب السوري أكثر من تسع سنوات والمثقل بالملفات الجرمية، لن يقبل بأي سيناريو يخرجه من السلطة، وهذا ما سيزيد من تهتّك الأوضاع الداخلية وتسريع وصولها إلى درجة الانفجار الشامل. فاللغة الوحيدة التي يفهمها الطاغية وأعوانه هي لغة القوة، وإذا بقي المجتمع الدولي متفرجاً على مأساة العصر، فإن ضغوط الشارع السوري وانفجاراته ستتكفل وحدها بتوفيرها والإطاحة به عنوةً.

     بصرف النظر عن جدية موسكو في الضغط على نظام الأسد من عدمها، وبسبب انشغالها بحماية مكتسباتها السورية قبل أن تطالها اجراءات قانون قيصر، فإن الرسائل والمؤشرات القادمة من موسكو تشير إلى هذا الاتجاه. وهو ما دعا صحيفة (سفوبودنايا) الروسية في مقال نشرته في 10 / 6 / 2020 للطلب من الكرملين ضرورة استبدال الأسد، معتبرةً أنه الحل الوحيد لتحقيق الاستقرار في سوريا، وأن الاستياء الشعبي المنتشر في العديد من المناطق لا يمكن إنهاؤه بالأساليب الوحشية التي اعتداها الأسد. والتصريحات الأميركية مؤخراً اتسمت بنبرة أكثر وضوحاً مما يشير إلى عزم واشنطن للضغط على النظام ووضعه في مواجهة مباشرة مع إيران، وتوجيه رسالة تحذير للروس أيضاً بأن المخرج الوحيد من مأزقهم هو القبول بحل سياسي بدون الأسد.

         إن خبرة الروس في تفاصيل الملف السوري جعلتهم الأقدر على فهم استعصاءاتهم، والأكثر معرفةً بدهاليز العصبة الحاكمة ومسؤوليتها الثقيلة عن القتل والتدمير وكل أشكال الإجرام بحق الشعب السوري حيث كانوا شركاءها وأكبر داعميها، لكنهم يدركون اليوم أن نظام الأسد الذي اجتاحته كل عوامل الضعف والتفكك، أضحى في حالة من انعدام الوزن والفاعلية أكثر من أي وقت مضى، كاشفة مدى إفلاسه السياسي والاقتصادي ومستوى الاهتراء والتمزق الواسع في سلطته، وأنها في سباق مع الزمن لإعادة ترتيب البيت السوري لما بعد الأسد وتهيئة أنصاره لمرحلة مقبلة من دونه، قبل أن تجرفهم سيول الغضب السوري.