أكاديمي سوري، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، أول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض، من مؤلفاته: "بيان من أجل الديمقراطية" و"اغتيال العقل" و"مجتمع النخبة".

برهان غليون

 

بينما تتسابق الدول الإقليمية، في ضوء تغير الإدارة الأميركية، على استعراض عضلاتها لتقاسم الكعكة السورية، لا تكفّ الوقائع الجديدة المأساوية عن فرض نفسها على الأرض. ومع تراجع قوى المعارضة وتفكّكها، وبروز الإفلاس السياسي والأخلاقي، منقطع النظير، للنظام الذي يصرّ على أن يبقى حتى على خراب سورية وموت شعبها، لا أعتقد أنه لا يزال هناك أساس عملي ومادّي يضمن، في إطار التوازنات الراهنة، حتى التطبيق المجتزأ لقرار مجلس الأمن 2254، فما بالك بالانتقال السياسي نحو نظام ديمقراطي جديد.
لكن الاعتراف بذلك لا يحل المشكلة، فمع استمرار العقم في المفاوضات الدولية، العلنية والسرية، وبطء ظهور صحوة وطنية سورية سورية، لن يحصل شيء آخر سوى ما يسفر عنه صراع القوى القائمة على الأرض. وما ظهر من استهتارٍ ملفتٍ للنظر من الدول المعنية بمصير المفاوضات، وسماحها بالتلاعب بالقرارات الدولية خلال السنوات الطويلة الماضية، يدل على أن الدبلوماسية الدولية لم تكن تعتقد، ربما منذ البداية، أو لا تريد أن تقوم من جديد دولة سورية موحدة، وليس مركزية فحسب. وأنها كانت تنتظر ولا تزال رسم حدود المناطق والإمارات البديلة بالدم، كما ذكر ذلك أحد رؤساء الإمارات الكبيرة القائمة، التي هي أيضا حدود مناطق النفوذ المنتظرة من الجميع. حيث يمكن أن تبدأ برعايتها وتحت إشرافها بعد ذلك التسويات/ المساومات بين النخب الجديدة المناطقية وحماتها، خارج أي مرجعياتٍ وطنية أو أممية. ففي غياب هذه المرجعيات وتأخر نشوء نخبة سياسية سورية فعالة وموحدة تضمن الحفاظ على الدولة، وتطرح نفسها بديلا للنخبة الاستبدادية الحاكمة، تشعر الدول المتنازعة على النفوذ أنه لا توجد ضمانات للحفاظ على ما تسمّيه مصالحها الخاصة سوى بالتحالف مع من ينجح من القوى المحلية في فرض سيطرته في هذه المنطقة أو تلك، ما دام الأسد ونخبته العسكرية والسياسية الملوثة بالدم والدمار لم يعودا محاورين مقبولين لأغلبها، عدا عن أنهما أصبحا مرتهنين للوصيين، الإيراني والروسي.
نحن أمام ظاهرة تفكّك سورية إلى مجموعة من الدويلات الخاصة، باستغلال كل الذرائع القومية والطائفية والقبلية والدولية والاستراتيجية
لا يستدعي هذا المسار “البلقاني” الإعلان الرسمي عن إقامة دويلاتٍ تخضع للسيطرة المباشرة للدول المتنفذة، وتعتمد على حمايتها. كما لا يتناقض الحديث المكرّر عن ضرورة تطبيق القرارات الدولية عن سورية الموحدة، مع ترك الأمور تنضج على نار هادئة، لكن حارقة بشكل أكبر للسوريين الذين يعيشون على حافّة المجاعة، بانتظار أن تأخذ الصراعات المناطقية مداها، مع الدعم العلني والسري لهذه الجماعة المحلية أو تلك، ومساعدتها على حل مشكلاتها الخاصة أو مع القوى والدول الأخرى.
لكن لا يمكن أن ننفي أننا أصبحنا منذ الآن أمام عدة مشاريع لما ينبغي تسميتها “إمارات الأمر الواقع”، من بينها مشروع إمارة إدلب شبه المستقلة ذاتيا، والتي تسيطر عليها قوى إسلامية، بما فيها جبهة النصرة، بالارتباط مع الاستراتيجية التركية في صراعها مع مشاريع حزب العمال  الكردستاني التركي، الطامح إلى لعب دور مليشيا “أممية” إقليمية. ومنها أيضا إمارة شرق وشمال الفرات التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وأحد فروع الحزب المذكور نفسه: حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، وهي من الإمارات التي تحظى بشكل علني بدعم الولايات المتحدة الأميركية والتحالف الدولي. وهناك إمارة غرب ووسط سورية التي تضم ما تسمى مناطق سيطرة النظام تحت رعاية الروس وحمايتهم، مع تطلعات إيرانية لفرض المشاركة الندّية في هذه السيطرة والإدارة والحماية العسكرية.
وكما تؤكد موسكو على أنه لا بديل للأسد في المنطقة التي تخضع لسيطرتها ونفوذها، تريد واشنطن، حسب تصريحات المبعوث الأميركي السابق إلى سورية، جيمس جيفري، أن يكون شرق الفرات وشماله منطقة “حكم ذاتي سياسي” مع قوة عسكرية مستقلة، أي دولة حزبية على شاكلة دولة الأسد. ما يعني أن الأمر يتجاوز حتى مشروع الاتحاد السوري البائد للعشرينيات نحو الكونفدرالية التي تجمع بين دول ذات سيادة تفاهمت على إقامة علاقات تعاون في ما بينها مع احتفاظ كل واحدةٍ منها بجيشها وسياستها الخارجية ومصرفها المركزي، وكلها من علامات السيادة، وهي تستطيع، في أي لحظة، أن تستقل بنفسها. في المقابل، يبقى الجنوب السوري المنطقة الأخيرة التي لم تتبلور بعد معالم القوة المحلية التي ستنجح في فرض سيطرتها الرئيسة عليها. وهي المنطقة الأكثر حساسيةً وتعقيدا، سواء بسبب تكويناتها الأهلية أو موقعها الاستراتيجي بالنسبة للقوى الإقليمية المتنافسة، وفي مقدمها إسرائيل وإيران. وربما تدخل زيارة المبعوث الأميركي جول ريبرن، أخيرا، إلى الأردن والإمارات، في سياق البحث في تجاوز هذه الأزمة، ورسم خطوط الكانتون الجنوبي وهويته، بما يمكن أن يشرعن أيضا الاستعدادات الأميركية المتزايدة لتقديم دعم أكبر لكانتون شرق الفرات.
تبدو بلقنة المشرق للمجتمع الدولي مخرجاً سهلاً، أو أسهل المخارج، من الأزمة التاريخية العميقة التي تضرب المشرق لأسباب داخلية وخارجية
والواقع أن ما لم يعد من الممكن إعادة تأهيله، على الصعيد المركزي، أي نموذج نظام الجمهورية الوراثية، يسعى الجميع إلى تعويضه بنظم  بديلة ومن النموذج البائس ذاته، لكن على مستوى المناطق، وعلى شكل دويلات خاضعة لحكم المليشيات التابعة، المحلية والأجنبية، بما في ذلك بالطبع دويلة الأسد المتبقية من إرث الجمهورية، وهي أكبرها مساحةً وساكنةً، لكنها أكثرها تأزما وإشكالية، والتي يصعب حسم أمورها بوجود الأسد، قبل أن تستقر أوضاع الإمارات الجديدة الأخرى.
هذه ليست استنتاجات أو توقعات، وإنما ما يحصل على الطبيعية أمام ناظرينا، وما يستطيع أي إنسان عادي من دون خبرة سياسية أن يكشفه بالعين المجرّدة،  فنحن أمام ظاهرة تفكّك البلاد إلى مجموعة من الدويلات الخاصة، باستغلال كل الذرائع القومية والطائفية والقبلية والدولية والاستراتيجية، وكلها تهدف لخدمة مصالح حماتها، ولا علاقة لأيٍّ منها بمراعاة مصالح ساكنيها حتى لا نقول خطأ الموطنين السوريين.
(2)
يأتي هذا التفكيك بمثابة مرحلة ثانية لاستكمال ما كانت الدول “المعنية” ذاتها قد أنجزت المرحلة الأولى منه، عندما قسمت المملكة السورية وبلاد الشام في العشرينيات إلى عدة دول، جميعها غير قادرة على الوفاء بشروط قيام دولة سيدة قادرة على الاستقلال بقرارها، ومالكة للموارد المادّية والبشرية الضرورية لتطوّرها وتنمية مواردها واندماجها الفعلي في مجتمع العصر الراهن. للأسف، وبعكس الأوهام التي يبنيها بعضهم على هذا التحول الجديد، لن يقدم تحطيم الدولة السورية أي فرصٍ جديدة لتطور الحريات الفردية والسياسية والفكرية، ولا لدفع عجلة التقدّم العلمي والتقني والحضاري عموما، وإنما سيزيد من الضغوط الداخلية بمقدار ما سيحول المناطق إلى مزارع لبعض الأحزاب والأسر والعشائر القوية، ويضع مجتمعاتها في طريق مسدود. ولن تستطيع أي جماعة محلية أن تعيد بناء هويتها الخاصة أو خصوصيتها من خلال دويلاتٍ سوف تتحول سريعا إلى أقفاص لساكنيها، ولكنها سوف تتحد، هوية وثقافة واقتصادا، في الحروب والنزاعات التي لن تتوقف بين العصائب المتنازعة على السلطة والموارد الشحيحة والحمايات الأجنبية، كما رأينا ذلك خلال أكثر من قرن في منطقة البلقان، حتى صارت مفردة البلقنة مصطلحا للإشارة إلى منطقة الحروب والنزاعات الصغيرة الهوياتية التي لا تهدأ، والتي لم تخمد إلا بعد إدخالها في حماية الاتحاد الأوروبي. والبلقنة هي مصير كل الجماعات الأهلية التي تُخفق في التفاهم على إقامة دولةٍ سياسيةٍ قانونيةٍ تمكّنها من تجاوز مفهوم الهوية الإثنية والخصوصية الثقافية، وتمكّنها من مواكبة العصر، بينما لا تملك أي واحدة منها الشروط الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية لإقامة هذه الدولة. ولذلك تبقى على الرغم منها محكومة بهوس إضاعة هويتها الخاصة. وقد بقيت إمارات إيطاليا الصغيرة وممالكها ثمانمئة عام، بعد اختفاء الدولة والحكومة المركزية الذي ساهمت فيه الغطرسة البابوية، حتى نجحت في أن تستعيد وحدتها في بداية القرن التاسع عشر، بالرغم من أن فكرة المملكة الإيطالية لم تختف من المخيال العام، على أثر الثورة الفرنسية وتطور الحركات القومية الحديثة.
لن يقدم تحطيم الدولة السورية أي فرصٍ جديدة لتطور الحريات الفردية والسياسية والفكرية
أول نتائج هذه البلقنة السورية المتنامية وأهمها إلغاء الشعب السوري بالمعنى السياسي وتحييده، وتحويله إلى طوائف وأقليات وجماعات تتنازع على إثبات الهوية، وتمييز نفسها بعضها عن بعض، بالبحث عن التفاصيل ونسيان الرئيسيات، وفي ما وراء ذلك إخراج سورية كقوة مشرقية من أي حسابات استراتيجية إقليمية. وهذا يعني الاستمرار في إنجاز المهمة التي ضمن تنفيذها للأسد الاعتراف له بما يشبه مملكة وراثية رسمية، من المجتمع الدولي، مع صرف النظر عن أي انتهاكات، مهما بلغت من الخطورة، لحقوق الإنسان في سورية ومحيطها معا.
لا يمنع ذلك من أن بعض المجتمعات المحلية سوف تشعر، على الأقل في المرحلة الأولى، وهذا ما يثير حماسة بعض المثقفين، بانفراج أمني نسبي يعوّض خمسين عاما من الرعب وحكم الإرهاب الذي مارسه نظام سيطرة همجي ومتوحش، وعقدا كاملا من القتل المنهجي والموت تحت التعذيب والاعتقال والاختطاف بالجملة. فمن المحتمل أن يتمتع بعضهم، في فترات الهدوء، بهامش أكبر من الحريات السياسية أو الفكرية مع تراجع وتيرة الاعتقالات الجماعية والاختطاف العشوائي، والإذلال المتعمد، بهدف التأديب والتربية على العبودية، فسورية المبلقنة سوف تكون بالضرورة مفتوحة على العالم، أو على بعض دوله المتمدّنة، ومرتعا للجمعيات ومنظمات المجتمع المدني العالمية، ومقرّا لقواعد عسكرية وأجهزة مخابرات أجنبية. وهذا ما يصعّب قيام نظام أمني مركزي استعبادي على شاكلة نظام الأسد القديم. ومن الممكن أيضا أن يساعد هذا الانفتاح على بعث بعض الحياة في الحركة التجارية والاقتصادية عموما، خصوصا مع توفر جيش العاطلين واليد العاملة الرخيصة. لكن على المدى المتوسط جميع المشكلات التي كنا نعاني منها في الدولة القديمة، والتي حاول نظام الأسد التغطية عليها بالعنف سوف تتضاعف: من فساد ومحسوبية وغياب حكم القانون وانعدام الاهتمام بالتنمية وتوفير فرص العمل وفي الاستثمار في الصناعية والعلم والتقنية، واستمراء التبعية للحماة الخارجيين، وانتشار الفوضى والاقتتال ومعه تنامي الجريمة وعمليات الاختطاف والاغتيالات السياسية والمواجهات المتواترة بين المليشيات والطامحين للسلطة ومواقع السيطرة.
يكمن الحل في إعادة بناء دولة المواطنة والمدنية والتنمية الإنسانية والتقدّم التقني والعلمي والاقتصادي، لا في تحطيمها
لكن ما يمكن أن يكون أكثر مأساوية من نتائج التقدّم في هذا المسار، فيما لو استمر وتكرس بالفعل، هو نهاية الحلم بعودة أكثرية اللاجئين، أو إطلاق سراح المعتقلين، أو معاقبة المسؤولين عن جرائم الحرب والإبادة الجماعية. وربما سيريح تكريس هذه البلقنة بعض الوقت المجتمع الدولي لما يوحي به من الاستقرار النسبي، وانحسار خطر تجدّد موجات الهجرة الجماعية التي عرفناها في العقد الماضي. والأخطر من ذلك احتمال خسارة سورية جميع أراضيها وحقوقها الإقليمية واعتبارها كانت جزءا من سورية التي لم تعد قائمة، وانشغال زعامات مليشيات الإمارات الناشئة بنزاعاتها وصراعاتها عن التفكير حتى بإثارة قضيتها في المحافل الدولية.
تبدو بلقنة المشرق للمجتمع الدولي مخرجا سهلا، أو أسهل المخارج، من الأزمة التاريخية العميقة التي تضرب المشرق لأسباب داخلية وخارجية، لا مجال هنا للتفصيل فيها. لكنها ليست كذلك في الحقيقة، وإنما هي تعميق لها، والدفع بشعوب المنطقة إلى المجهول، وتحويل الكانتونات الضعيفة والمفقرة إلى قنابل موقوتة، وحواضن للتطرّف والعنف والإرهاب. والسبب أن جوهر هذه الأزمة الطاحنة هو بالضبط الفشل في بناء هذه الدولة الفاعلة والقادرة على أن ترد على تطلعات الأفراد والشعوب، وتقدّم لهم المنافع والمكتسبات المادية والمعنوية، وفي مقدمها الكرامة والحرية وفرص العمل والترقي الاجتماعي التي افتقدوها. ويكمن الحل في إعادة بناء دولة المواطنة والمدنية والتنمية الإنسانية والتقدّم التقني والعلمي والاقتصادي، لا في تحطيمها. وهذا هو الدرس الأهم الذي قدّمته لنا في هذين العقدين التجربة العراقية الغنية، بعدما اكتشفت الجماعات الأهلية، المذهبية والمناطقية والقومية، كيف جرّدت الكونفدرالية، في بلد يفتقر لطبقة سياسية حقيقية ووطنية، من مضمونها، وأصبحت مدخلا لشرعنة الإمارات العائلية والشخصية ونهب الدولة وتحكم المليشيات الطائفية بالشأن العام وتعميم الفساد وتكريس التبعية تجاه قوى الاحتلال الأجنبية والتسليم للولاءات الخارجية، على حساب تعزيز روح الوطنية والمواطنة والكرامة الشخصية والعدالة وحكم القانون.