مناف الحمد

ليس التوفيق بين الليبرالية السياسية والإسلام غاية سهلة التحقيق؛ فالمعوقات التي تقف في وجه اللقاء أعقد مما يتصوره بعضهم.

ونحن إذ نتحدث عن الليبرالية السياسية، فإن لنا قصدًا من وصف الليبرالية بهذا الوصف؛ لأن فرقًا كبيرًا بين الليبرالية مطلقةً، والليبرالية موصوفة بالسياسية؛ يكمن في أن الأولى -وهي ما اصطلح على تسميتها بـ”الليبرالية الشاملة”- تضع مفهومًا معينًا للشخصية الأخلاقية، وللخير العام، ثم تحاول تصميم مجتمع متوافق معه، وهو ما نظّر له رواد الفكر الليبرالي، وتبلور على يد أمثال “كانت” و”مل“. أما الثانية، فلا تنطلق من نظرية مسبقة للخير العام، ولا من تصور خاص للشخصية الأخلاقية، وإنما من تصور للمجتمع الذي يمكن أن يحقق قبولًا من جانب المواطنين، والبحث، من ثَمّ، عن إمكانية تحقيقه.

فالمطلوب هو توافق أفراد المجتمع على قيم مشتركة، عابرة لخلافاتهم العقدية، واشتقاق قوانين وسياسات تجسد هذه القيم، وهو التصور الذي نضج على يد المفكر الليبرالي المعاصر “جون راولز“.

لا يتسع المقام لتفصيل نظرية راولز الفذة التي أدخلت هذ التعديل على الليبرالية الشاملة؛ من أجل تخليصها من التحيز لرؤية معينة للخير العام، وتصور خاص للشخصية الأخلاقية اللذين ناءت بحملهما الليبرالية الشاملة، وجعلا منها نظرية يسهل رفضها من طرف من يتبنّى رؤية أخرى للخير، وتصورًا مغايرًا للشخصية الأخلاقية.

المشكلة التي تذرّ بقرنها في محاولة التوفيق بين الإسلام، وهذه الليبرالية السياسية أن الاتفاق على قيم مشتركة ممكن مع استدراكٍ تحتّمه طبيعة كل منظومة لاهوتية شاملة، وهو: ماذا لو اصطدمت هذه القيم مع ثوابت الإسلام؟

من نافل القول أن الدولة كيان محايد في النظام الليبرالي، فماذا لو أقرت القيم العامة التي يتوصل إليها المواطنون في شروط تعاون منصف -بحسب التعبير الراولزي- حماية التجديف، والسماح بسبّ الرموز الدينية؛ بعدّه مندرجًا تحت الحق في حرية التعبير.

والمثال المتعين لهذا التعارض كتاب “سلمان رشدي“، والذي عدّه أحد منظري التعددية المعاصرين، “بيخو باريخ“، مسيئًا للمسلمين، وقال: إن من حقهم الاعتراض على السخرية من رموزهم الدينية، بينما قال منظر تعددية آخر معاصر، هو “بريان باري“: إن الحق في السخرية جزء من الحق في حرية التعبير، وإنهما شيء واحد لا ينشطر إلى قسمين.

إن لحل هذه المعضلة سبيلين:

أن يدمج أصحاب العقيدة الشاملة -وهم المسلمون في حالتنا- القيم التي توافق عليها ممثلو المواطنين في عقائدهم الشاملة، ويقبلوا بكل ما يندرج تحتها، ومنها مستلزمات حرية التعبير، في الفضاء العام، وأن يمنعوها في الفضاء الخاص.

أو أن يعاد النظر في هذا الحق، وعدم إطلاقه من دون النظر إلى حيثيات كل حالة، وسياقها، ومضمونها، وهو ما طالب به المفكر الليبرالي “مايكل ساندل“.

من جهة أخرى، فإن للدولة الحق في استخدام الإكراه ضد كل من يحاول فرض رؤيته الخاصة، وهو ما تقتضيه حياديتها، وما يدخل في صميم شرعيتها.

فإذا وضعنا على متّصل هندسي الأصناف الأربعة التي يمكن أن تستغرقها القسمة العقلية لأفراد مجتمع ما، يمكن أن نصفهم على المتصل بالشكل التالي: (شرعية الليبرالية، مناف الحمد، الأوان)

صنف أول انعزالي مغرق في فردانيته، يتخذ أفراده قراراتهم من دون مشاركة أحد.

صنف ثانٍ مقابل لهؤلاء، يمثل أسّ المشكلة التي نناقشها، وأبرز أنموذج له هم الإسلاميون المتطرفون الخاضعون لعقائد شاملة، لا يمكن لها أن تلتقي مع قيم الليبرالية السياسية؛ فأيّ سبيل للقاء بين محاولة فرض رؤية أحادية على المجتمع والدولة كالخلافة الإسلامية، وبين القيم العابرة للاختلافات العقدية.

صنف ثالث بينهما أقرب للأول، ينوس أفراده بين الانتماء والانفصال؛ فهم لا ينتمون إلى عقيدة واحدة، ويتقاذفهم الشك من جهة إلى أخرى، وهؤلاء لا يمثلون عقبة أمام الليبرالية السياسية؛ لأن طبيعتهم هذه تجعلهم ملتزمين بضرورة أن يعيش الناس أحرارًا ومتساوين.

وفي جوار الصنف الثالث صنف رابع، يشبه الصنف المتطرف الذي مثّلنا له بالمتطرفين الإسلاميين؛ فأفراده يتبنون عقائد شاملة، ولكنهم يختلفون عن المتطرفين في أنهم لا يرغبون في فرضها على الآخرين، وهؤلاء أيضًا من السهل؛ بسبب صفتهم الأخيرة، قبولهم بقيم الليبرالية السياسية.

لا شك في أن هذا المتصل فرض إجرائي؛ من أجل تسهيل مقاربة المسألة، وإلا فإن التداخل بين الأصناف، واحتمال انبثاق أصناف فرعية في الواقع أمر وارد.

فالصنف الأخير -مثلًا -في حالة المسلمين المعتقدين بأن دينهم هو الحق المطلق، يمكن في حالات معينة أن يشكل عقبة؛ ليس بسبب رغبته في فرض معتقده، وإنما بسبب استعلائه العقدي، ورفضه لاستيعاب قيم مشتركة ضمن عقيدته الشاملة.

فكيف يمكن لأفراد هذا الصنف -مثلًا- أن يرسلوا أبناءهم إلى مدارس تقول: إن علم المستحاثات يؤيد نظرية التطور، ولا يؤيد نظرية الخلق؟

وكيف يمكن لهم أن يقبلوا بقانون يبيح الإجهاض؛ بعدّه حرية شخصية؟

يمكن أن يكون الحل لعقبات كهذه بالسماح لأفراد هذا الصنف بالتمسك بتلقين أبنائهم نظرية الخلق في فضائهم الخاص، مع عدم الاعتراض على السماح بتلقّيهم نظرية التطور في المدارس، كما يمكن حفظ حقهم في تحريم الإجهاض في فضائهم الخاص، مع عدم السماح لهم بمحاولة فرض حظره في الفضاء العام.

أما الصنف المتطرف، والذي كان الثاني في الترتيب على المتصل، والواقع في أقصى الطرف المقابل للفردانيين، فلا حلّ إلا بإزاحته إلى الصنف السابق، المتبني أفراده العقائد الشاملة نفسها، من دون محاولتهم فرضها، أو منع الدولة لهم -بالقوة التي تحتكر الدولة استخدامها-  من محاولة فرض رؤاهم على غيرهم.

 geroun  موقع