زياد ماجد

كثُرت في الحلقات الأكاديمية الفرنسية، بعد الجريمتين الهمجيّتين ضد مدرّس التاريخ والمصلّيتين والعامل في الكنيسة، النقاشات والنصوص الجماعية حول مسألة الحرّية الفكرية واستقلالية التدريس ومناهجه وعلاقة الأمر بالعلمنة والإسلام والعنف والأبحاث الـ”بوست-كولونيالية” (الـ”ما بعد استعمارية”). وكثُرت بموازاتها مقالات الرأي والافتتاحيات التي وقّعها أفراد ذوو تأثير في الأوساط الثقافية الفرنسية حول المسألة إياها.
ولعلّ ما حرّك جزءاً من النقاشات والكتابات هذه كان مواقف الحكومة التي عبّر عنها رئيسها إذ رفض مشروعيّة البحث في ماضي فرنسا الاستعماري لتفسير العديد من الظواهر السياسية والمجتمعية الراهنة، خاصة تلك المتعلّقة بالعنصرية وبالتوتّرات في ضواحي المدن الموسومة فئاتها الشابة “بالتحوّل المتوحّش”، وفق تعبير وزير الداخلية. واقترح وزير التربية الوطنية، استكمالاً للمواقف ذاتها، أن يُعاد النظر ببعض المواد المدرّسة في الجامعات، متّهماً ما أسماه “الإسلامو-غوشيست”، إي “اليسار المتعاطف مع الإسلاميين” داخل الأجسام التدريسية والطلابية، أو اليسارويين الإسلاموَيين (في ترجمة حرفية للمصطلح)، بالتسبب بأضرار جسيمة، لم يحدّدها، وبدفع البلاد نحو الأسوأ.
وقد تلا موقفَي رئيس الحكومة ووزير التربية نصٌّ نشره مئة أستاذ جامعي في جريدة “لوموند”، اتّهموا فيه زملاءهم الباحثين في حقول العلوم الاجتماعية بالتواطؤ مع “المدارس الفكرية الوافدة من الأكاديميا الأنكلوساكسونية”، المركّزة على دراسات العرق والهوية والتعدد الثقافي وسواها من القضايا التي عدّوها مدعاةً لكراهية “البيض”. ودعا الموقّعون إلى ما يشبه الرقابة داخل المؤسسات التعليمية والبحثية وإلى التصدّي لزملائهم “اليسارويّين الإسلامويّين”، محمّلين إياهم جانباً من المسؤولية في خلق مناخٍ تبريري للتطرّف في المجتمع الفرنسي.
على أن الردود التي توالت في الوسط الجامعي والبحثي بعد ظهور نصّ المئة أستاذ، أظهرت أقلّوية موقّعيه وانحراف آرائهم، كما آراء الحكومة، وتقاربها مع مواقف اليمين المتطرّف وعتاة العنصرية الساعين إلى توظيف العواطف التالية للجرائم بهدف تصفية حسابات سياسية وتعميم رقابة فكرية على التعليم ومناهجه. ووقّع في هذا السياق ألفا أستاذ وباحث فرنسي أو مقيم في فرنسا ردّاً عليهم في جريدة “لوموند” نفسها، ومثلهم فعل العشرات في أربع بيانات أُخرى متتالية. كما كتب باحثون في الفلسفة ومؤرّخون مقالات وافتتاحيّات في منابر مختلفة قرّعت مقولات المئة ومزاعم وزير التربية ودعواته.
وتمحور مضمون الردود المُشار إليها حول خمس قضايا، يفيد عرضها لما فيها من إضاءة على العراك الفكري السياسي الحالي.
بداية، أشارت معظم الردود إلى أن في مسلك الحكومة والمئة أستاذ الداعمين لها هروباً من كل نقاش جدي ومعمّق حول أزمات فرنسا وأسئلة الهويات المركّبة والمتبدّلة فيها وفي العالم بأسره نتيجة المتغيّرات الديموغرافية والثقافية والاقتصادية، واستسهالاً لإطلاق الاتهامات للمختلفين بالتواطؤ مع الإسلاميين وربطه باستيراد المناهج الأنكلوساكسونية والدراسات الـ”بوست-كولونيالية”. وذكّر النصّ الذي وقّعه الألفا أستاذ وباحث أن وزير التربية والمئة الموالين له يستعيدون في نعتهم خصومهم رافضي “الإسلاموفوبيا” (أو رهاب الإسلام) بالـ”إسلاموغوشيت”، تقليداً مشيناً ظهر في أوساط اليمين القومي المعادي للسامية في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي حين نُعِت سياسيون وأكاديميون بالـ”جُدِيو بولشفيك” (أو اليهود البلشفيين) للتحريض المضاعف عليهم بوصفهم يهوداً وشيوعيين أو مدافعين عن اليهود والشيوعيين. وكان في مصطلحهم يومها غرفٌ من نظريات المؤامرة التي اتّهمت اليهود بالوقوف خلف الشيوعية (تماماً كما اتّهمتهم قبلها بالوقوف خلف الرأسمالية).
وأشارت الردود كذلك إلى أن “الإسلاموفوبيا” التي ينفي البعض وجودها مثلما كانوا ينفون وجود العداء للسامية أو العنصرية والتمييز ضد السود، إنما هي سياسة ممنهجة في مقاربات النخب السياسية الفرنسية المتعاقبة على الحكم. وتكثر الأمثلة العنصرية المستقاة من تصريحاتها حول المسلمين وإشكاليات تكاثرهم، وحول اللاجئين والمهاجرين ومخاطر وفودهم، وتتلاقى مع ممارسات الشرطة المميّزة ضد شبّان من أصول مغاربية أو أفريقية في الأحياء الهامشية. ومع استضافة الإعلام الدوري لمحرّضين ضد الإسلام والمسلمين ليس صحيحاً أنه يُمكن السماح بكلام يماثل كلامهم إن استهدف المسيحية أو اليهودية وأتباعهما.
واعتبرت الردود أيضاً أن ثمة تناقضاً صارخاً لدى من يطالبون بحرّية تعبير قصوى ترفض أي رقابة أو تنازل أو مهادنة (في الرسم والقول والمسلك)، في وقت يدعون هم أنفسهم إلى مراقبة مناهج التدريس وضبطها ومحاصرة حقول دراسات والدعوة إلى شرطة فكرية تحدّد ما الممكن أو غير الممكن تدريسه. كأنهم صاروا دعاة “مكارثية” جديدة تبتزّ خصومها وتزعم تفوّقاً أخلاقياً يُتيح لها تصنيفهم ومحاكمتهم.
وأكّدت الردود أن نكران مثالب الاستعمار وجرائمه ورفض البحث فيها لتفسير أي ظاهرة معاصرة قلقة أو متوتّرة يشبه في مسلكه مسلك الذين على نقيضه، يحيلون كلّ المشاكل الراهنة إلى الاستعمار ويعيشون في ماضٍ لا يريدون له أن ينتهي أو أن يخرجوا منه. وفي الحالتين تبسيط يرفض النظر إلى القضايا الشائكة والأزمات المعقّدة بحجّة رفض المذنوبية من جهة أو تمسّكاً بالمظلومية من جهة ثانية.
وأخيراً، ذكّرت الردود أن العلمنة ليست محصورة في كاريكاتور (مع مشروعية وأحقّية كل تعبير) أو قطعة قماش (توضع أو لا توضع على الرأس) ولا هي أيديولوجيا مكتفية بذاتها، معزولة عن الديمقراطية والعدالة وما ينبغي أن توفّره من تكافؤ فرص واحترام حقوق ومساواة أمام القانون. وقالوا بهذا المعنى إن تجريد العلمنة مما يجب أن يرافقها من قيَم الجمهورية يحجّم رحابتها وتسامحها مع الاختلاف ويوهن علاقتها بالحرّية، ويجعلها كما في بعض الحالات متراساً لكل الذين يريدون التعبير عن عنصريّتهم، مستفيدين من ظرف انفعالات استثنائي يلي إرهاباً يمارسه أفراد مسلمون أو جماعات إسلامية…
بهذا تستمرّ النقاشات واصطفافاتها في فرنسا اليوم، ومن المرجّح أن تتصاعد بعض جوانبها في المرحلة المقبلة. والواضح أنه في مقابل الخطاب المتّخذ منحىً عنصرياً في الوسطين السياسي والإعلامي، تبرز أكثرية مضادة له في الوسط الأكاديمي والثقافي. وهذا ما يُبشّر بأن الردّ داخل الصُرح الجامعية وقاعات التدريس على الهستيريا خارجها ما زال على استقامته ورفضه المساومة على حريّة البحث أو الخضوع للابتزاز والتهويل، رغم انفلات الغرائز والتباهي بالجهل بعد وقوع الفظائع الأخيرة.
* كاتب وأكاديمي لبناني