الأوضاع العربية

شكّل الاستبداد، وما يزال، السمة الرئيسة للأنظمة العربية بوصفه الأساس العميق لحالة التدهور والتردّي الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه من تمزّق وتفكّك. فقد ضعفت مجتمعاتنا العربية، وفقدت عناصر المنعة والقوة والتضامن في وجه الأنظمة المتسلطة الفاسدة التي حظيت باستمرار بدعم القوى الخارجية. فضاعت معالم الدولة الوطنية، وأنهكت القوى الوطنية والديمقراطية التي عجزت عن إنهاء الاستبداد وإنجاز التغيير الجذري ببلدانها والانتقال بها إلى دول وطنية ديموقراطية. هذا بالضبط ما حفّز الشعوب العربية على إطلاق ثوراتها ضد تسلّط حكامها وفسادهم، من أجل تدشين عصر عربي جديد، تستعيد فيه الشعوب حقوقها المستلبة وحريتها وكرامتها المستباحة. حيث أدَّتْ ثورة المعلومات والاتصالات إلى كسر حالة الاستنقاع في عموم المنطقة، ومكّنتْ الشباب والشرائح المهمّشة من تفجير طاقاتها، بعد احتقاناتها وتململاتها الطويلة المتراكمة منذ عقود، ضد أنظمة الاستبداد والفساد. وهذا ما خلق فضاءً سياسياً عربياً، دفع ملايين العرب للخروج إلى الشوارع، توحّدهم طموحاتهم بالكرامة والحرية والديموقراطية والتخلص من أنظمتهم القمعية الفاسدة، والدخول في مسار تغييري يفضي إلى بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، دولة الحريات والمواطنة والتعددية التي يمكنها أن تضع حدّاً لسردية التهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وتحفظ كرامة وسيادة شعوبها. 

أحدثت هذه التطوّرات العاصفة، هزةً عميقةً في البلدان العربية، وانقسمت المنطقة بين قوى تسعى إلى التغيير وأخرى تجهد لمنعه وردعه، وخلقت حالة استنفار دولي وإقليمي واسعة. إذ رأت نظم الاستبداد العربي في هذه التطوّرات خطراً يهدّد وجودها واستمرارها، ويشكّل إنذاراً بنهاياتها، وإرهاصاً بولادة جديدة للمنطقة بأيدي شعوبها ولمصلحتها خارج إرادة الدول العظمى وامتداداتها. وكان من الطبيعي أن تتحرّك سريعاً للعمل على إجهاضها وحرفها عن مسارها. وشكّلت التدخّلات الإقليمية والدولية، وقوى الثورة المضادة من أنظمة وحركات إسلامية متطرّفة سنّية وشيعية عاملاً حاسماً في انحرافات ثورات الربيع العربي عن أهدافها وانزلاقاتها إلى الصراعات الداخلية والحروب بالوكالة. فتمكّنت هذه القوى من صدّ رياح الثورات العربية في موجتها الأولى، ونجحت في تشويه صورتها، وإغراقها بالدم، بهدف تأبيد الاستبداد والقضاء على تطلّعات الشعوب نحو الحرية والكرامة والعدالة والمساواة. 

ففي تونس نجحت الثورة في إسقاط رأس النظام، وتجنّب الانزلاق نحو صراعات عنفية، لكنها ماتزال تعيش مخاضها وتكافح من أجل تحقيق أهدافها أمام تحالف رموز النظام القديم المدعوم من أطراف عربية تسعى لإفشال التجربة السياسية الوليدة.

أمّا في مصر فقد استغلّت المؤسسة العسكرية تجربة الإخوان المسلمين في السلطة، وجنوحهم نحو أخونة الدولة، وتمكّنت من ركوب موجة الاحتجاجات والقفز إلى السلطة عبر حركة انقلابية أدخلت مصر في تجربة استبداد جديدة، تشكّل الآن رأس حربة للثورة المضادة في المنطقة العربية، مستغلة شعار “محاربة الإرهاب” لتصفية الحسابات مع قوى الثورة التي أسقطت نظام حسني مبارك، وإرهاب أي حراك ديمقراطي، سعياً لنيل الرضى الإسرائيلي ومباركة الأطراف الدولية.

وفي اليمن، انقلب تحالف قوى الثورة المضادة من الحوثين وأنصار النظام السابق على الشرعية التي أنهت حكم علي عبد الله صالح، فتحوّلت البلاد إلى مسرح صراعاتٍ داخلية وإقليمية ودولية، ولعب التدخّل الإيراني والسعودي والتواطؤ الدولي دوراً في تأجيج الصراعات الدموية وتمدّدها لاستنزاف الأطراف اليمنية والدول المتدخّلة في الشأن اليمني. 

وفي ليبيا أسقطت الثورة نظام القذافي، وانقلب الإسلاميون على نتائج الانتخابات، ودخلت البلاد في صراعات دموية، تغذّيها الأطماع الدولية والإقليمية لأطراف الصراع بحثاً عن مكاسبها ومصالحها وزيادة نفوذها، وماتزال الأطراف الداخلية تتنقّل بين دعم خارجي وآخر في معارك كرًّ وفرٍّ بين شرعيات متصارعة ومجتمع دولي يأخذ الأزمة نحو مزيدٍ من الصراع والاستنزاف، دون اكتراث لمعاناة الشعب الليبي الذي يدفع فاتورة هذا الصراع. ولقد تعقّدت الأزمة الليبية في الفترة الأخيرة بدخول القوات التركية إلى ليبيا، وقد لجأت مثل غيرها من اللاعبين الإقليميين والدوليين في المنطقة على اختلافهم لخوض حربها هناك بالوكالة معتمدة على الجنود المرتزقة من السوريين وغير السوريين. 

أمّا في سورية، فمازال الصراع الدولي والإقليمي في بلدنا وعليها، تدور رحاه بالترابط مع أزمات المنطقة، لا سيما حيث النفوذ الإيراني في كل من لبنان والعراق واليمن. وقد أدّت تدخّلات الأنظمة العربية وخاصة الخليجية منها والأطراف الإقليمية الأخرى إلى الانقسام بين داعم لقوى وفصائل يتصدّر الإسلام السياسي مشهدها العام، وبين داعم لقوى الثورة المضادة وإعادة تأهيل النظام. لعب التنافس الشديد مع الدور التركي تأثيراً كبيراً في تحوّل مواقف السعودية ومن يدور في فلكها، وأدّى إلى بروز المحور الخليجي المصري، الذي دعمت بعض أطرافه التدخّل العسكري الروسي في سورية وميليشيا “قسد” لإضعاف النفوذ التركي. 

على وقع هذه الخطى، شكّل المشهد العربي في محصلته استجابة متدرّجة من غالبية الأنظمة لمخططات واشنطن وإسرائيل للانخراط في مشروع الشرق الأوسط الجديد، وتجلى ذلك عبر مشروع صفقة القرن، وإقامة علاقات وتواصل بين إسرائيل وعدد من الأنظمة العربية سرّاً وجهراً، تمثّلت بزيارات ووفود متبادلة وعقدٍ للاتفاقات وصلت إلى مستوى التطبيع، ورفع الأعلام الإسرائيلية في بعض العواصم، وتنسيق رسمي تحت ستار محاربة الإرهاب وإضعاف النفوذين الإيراني والتركي. وهذا ما شجع إدارة ترامب على نقل سفارة بلادها إلى القدس والاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل، وكذلك اعترافها بضمّ الجولان المحتلّ للكيان الصهيوني. 

شهد العام 2019 انطلاق الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي. بدأت في السودان وأنجز انتصار الثورة في إسقاط حكم البشير، ثم انتفاضة الجزائر التي أجبرت الرئيس على التنحّي. وتتواصل انتفاضة الشعبين بمزيد من الإصرار لتحقيق كامل أهدافها. وفي أواخر العام نفسه، شهد كل من العراق ولبنان اندلاع انتفاضة شعبية عارمة على نظامي النهب والفساد والمحاصصة الطائفية في البلدين، كسرت كل المحظورات السياسية والمذهبية، متجاوزة الأحزاب والطوائف والمذاهب، بعد أن اكتوى الشعبان طويلاً بويلات الفقر والتهميش والاستغلال الطائفي. وهذا ما يؤكّد أن الربيع العربي لم يكن حالة طارئة أو لحظة عابرة في المنطقة، بل ثورات شعبية حقيقية أصيلة، تعبّر عن استحقاق تاريخي تراكمت فيه الأسباب والعوامل الذاتية والموضوعية في المجتمعات العربية، لتتحدى إرادة الشعوب قوة القهر والتسلّط والفئوية السياسية المنفلتة لعقود. ولقد تزامنت انتفاضات الربيع العربي مع انتفاضة الشعب الإيراني ضد نظام الملالي وسلطة الولي الفقيه في إيران. فقد خرج الإيرانيون بمختلف شعوبهم وقومياتهم مطالبين بإسقاط ولاية الفقيه، ومنع تبديد أموال الإيرانيين على التسلّح النووي وإعداد الميليشيات الطائفية التي تعيث فساداً في المنطقة.