ترجمة: علاء الدين أبو زينة
الغد الأردنية:8/4/2020
لقد شهدنا انهيارات من قبل، ونوبات ركود وكساد، لكننا لم نرَ شيئاً مثل هذا أبداً. لقد أعاق خوفنا من فيروس كورونا وأوقف كل جانب من جوانب الحياة اليومية. ننظر من نوافذنا، وبالكاد نتعرف على البلد الذي نعيش فيه: الشرطة تصوِّر المشاة الذين ينزّهون الكلاب، وتصب صبغة سوداء في البحيرات لردع السبّاحين. ونقف منتظرين في الطوابير الطويلة في محلات التسوق الكبيرة التي فرغت رفوفها. وينهار سوق الأوراق المالية، وينهض، ثم ينهار مرة أخرى. وبشكل عام، لا شيء من القواعد القديمة له معنى. مرحبا بك في عالم اقتصاد كورونا.
لو أن هذا كان ركودا طبيعيا لكان العلاج بسيطا: شجّع الناس على الخروج، وإنفاق المال وتعزيز الاقتصاد. لكن مخاوف الصحة العامة اليوم تتطلب من الحكومة قمع الاقتصاد بينما تحاول إبقاءه واقفاً على قدميه في الوقت نفسه. الشوارع هادئة، والفنادق فارغة، والمطاعم والحانات والمحلات التجارية في الشوارع الحيوية مغلقة. لمعالجة الفيروس، يجب على الاقتصاد أن يذهب إلى السبات.
كما لاحظ ميرفين كينغ، فإن الاقتصاد يبلي حسناً في تفسير ما حدث -لكنه يكافح حقاً لتفسير ما قد يحدث. لم تكن كرة الكريستال التي قد تنبئ بمستقبل الاقتصاد في أي وقت أكثر قتامة وكدراً مما هي الآن. لقد تمزق إرباً كل تحليل وأي توقعات اقتصادية تم تقديمها لهذا العام وما بعده. وتبدو التوقعات الاقتصادية أشبه بالأمل الأعمى أو ضرباً من التخمين المفتوح على الاحتمالات.
الآن، تظل المحاولات الجديدة لتعديل التوقعات ذات صلة لساعات فقط، وربما لأيام، قبل أن يتسبب تفشٍّ جديد للعدوى أو حزمة تحفيز بمليارات الجنيهات في قلب أكثر الحسابات حداثة على رؤوسها. لقد دمر الواقع الجديد قدرتنا المحدودة مسبقاً على الخروج بتوقعات اقتصادية متماسكة. الآن أصبحنا جميعًا نطير عمياناً، على غير هدى.
يكاد يكون من المستحيل مواكبة هذه الكارثة العالمية التي لم يرها أحد قادمة. ويحتدم الجدل حول ما إذا كان ردنا على “كوفيد-19” ربما يكون إنذارا كاذبا كبيراً، أو ما إذا كان الإغلاق لا يذهب بعيداً بما فيه الكفاية. ولكن، من منظور اقتصادي، فإن أياً من السيناريوهين -أو أي شيء بينهما- لا يغير ما تعلمناه: إننا عندما نواجه فيروسا جديدا، يكون رد الفعل هو القرفصة والاحتماء باليدين في حال أثبت أنه قاتل. لقد طورت الرأسمالية العالمية انقباضة تشنجية عصبية، والتي تعمل كل مرة يأتي فيها فيروس جديد. ويصبح الإغلاق حالة نخشى العودة إليها من دون سابق إنذار. وسيتعين علينا أن نقوم بتنظيم حياتناً وفقاً لذلك.
تشير جميع المؤشرات الاقتصادية إلى أننا الآن في منتصف الطريق إلى أكبر انكماش اقتصادي في التاريخ. سوف تصبح الأمور أكثر سوءاً قبل أن تشرع في التحسن. وبينما يأمل الاقتصاديون في حدوث انتعاش على شكل حرف V -أي انكماش سريع، يليه ارتفاع سريع في النمو بمجرد أن يتمكن الاقتصاد من استئناف النشاط الطبيعي- فإن أحداً لا يعرف متى سيكون هذا “الطبيعي” ممكنا مرة أخرى. وتراوح الدول الأكثر تقدما وليبرالية في العالم الآن بين إعطاء توجيهات جادة بشأن الحد من التفاعلات الشخصية وبين عمليات الإغلاق الكاملة التي تمنع الأشخاص من مغادرة منازلهم من دون إذن. وليس هناك أي زعيم عالمي في وضع يسمح له بالمقامرة بتسمية تاريخ لانتهاء طريقة الحياة هذه.
لكن القصة الاقتصادية لـ”كوفيد-19″ لا تتعلق ببساطة بالإغلاقات وتدابير الحجر والانكماشات. حيث ما يزال يُسمح للاقتصاد بأن يعمل، نشاهد تكيفا مذهلاً للسوق: إعادة تخصيص للعمال، والموارد، وأي نقود قليلة ننفقها حالياً. وإعادة التنظيم هذه هي شيء لا مثيل له ولا شيء يقارَن به. ولا عجب أن وزارة الخزينة البريطانية لم تنشر التكلفة المقدرة لكل هذا -لأنها لا تمتلك المعلومات التي يمكنها الاعتماد عليها.
الشركات التي ركزت ذات مرة على صناعة الطائرات النفاثة والديناميكيات المعقدة لسيارات سباق “فورميولا-1” حولت نفسها بين عشية وضحاها إلى شركات مصنِّعة للمنتجات الحيوية الضرورية للصحة. وتبذل شركة “ماكلارين” قصارى جهدها لصنع المزيد من أجهزة التنفس الاصطناعي لتزويد الخدمات الصحية الوطنية؛ وعملت شركة “مرسيدس” مع مهندسي جامعة كلية لندن لإنتاج مساعِدات التنفس للمساعدة على إبقاء المرضى خارج وحدات العناية المركزة. والحكومة الاسكتلندية اعتبرت معامل التقطير حيوية للاستجابة لوباء “كوفيد-19” لأن الكثير منها تعمل الآن في صناعة مطهرات اليدين. والكثير مما يتم إنشاؤه وتوزيعه يُقدَّم على أساس غير ربحي، لتزويد المسنين والضعفاء بأدوات الوقاية التي يحتاجونها.
عندما يحدث ارتفاع كبير في الطلب، لا تمكن تلبيته دائماً بين عشية وضحاها. وقد اضطرت شركات الأغذية المحلية مثل “أودوكس” و”كوك” إلى تحديد الطلبات لمنتجاتها بسبب ارتفاع حجم الطلب -وليس لأن شباب التوصيل هم الذين لا يستطيعون المواكبة. وأخبرت “أوكادو” البريطانية للتسوق عبر الإنترنت العملاء عند نقطة ما بأنهم مجرد رقم في طابور طويل للوصول إلى الموقع. والآن، اضطرت الشركة إلى وضع إشعار على موقعها يقول أنها لا تستطيع مواكبة الطلب. وفي مكان آخر، أغلقت “أمازون” مؤقتًا منفذ “مخزن الطعام” في الولايات المتحدة بسبب فيض الطلبات، وأصبحت منافذ التوصيل عبر الإنترنت محجوزة لمحلات السوبرماركت الرئيسية في المستقبل المنظور. وتتصل العائلات التي ما يزال لديها منفذ طلب عامل بأصدقائها، وتسأل عمن يريد منهم بعض المعكرونة.
أصبحت المحلات ومطاعم الطعام الجاهز المحلية، التي كان الكثيرون سيمرون بها من دون أي انتباه في السابق، قريبة من أن تكون خدمة الطوارئ الرابعة بإطعام المجتمعات المحلية وتوفير الضروريات للإبقاء على الأسر واقفة على أقدامها وتعمل. وشهد العاملون فيها تحولاً في وضعهم؛ انضم الأشخاص الذين أُطلق عليهم وصف “قليلو المهارة” قبل ثلاثة أشهر فقط في إصلاحات الهجرة التي حددتها وزارة الداخلية -عمال المتاجر، ومكدسو الرفوف، وسائقو التوصيل، وعمال النظافة- إلى صفوف “العمال الرئيسيين” إلى جانب الأطباء وكوادر التمريض، وهم الذين يخاطرون بسلامتهم لمساعدتنا على عبور الأزمة.
ينعكس هذا التغيير على إدراكنا مجموعات المهارات على المستوى الاقتصادي أيضا. ولم يقتصر الأمر على التزام شركة “أمازون” بتوظيف 100.000 عامل جديد حول العالم فحسب، بل قامت الشركة برفع الأجور في بريطانيا بمقدار جنيهين إسترلينيين في الساعة -وهي زيادة كبيرة نسبيا. وقد تعلمت أمازون بسرعة كبيرة قيمة العمالة في المستودعات وعمال التوصيل، ومنحتهم زيادة مهمة فوق ما كانت تدفع لهم في السابق.
في جميع أنحاء بريطانيا -وفي القارة أيضاً- أصبحنا نشهد الآن أسرع إعادة توزيع للعمالة منذ الحرب العالمية الثانية. فجأة يقدم سوق الوظائف مئات الآلاف من الوظائف للعمال في المتاجر، ووكلاء خدمة العملاء، وموظفي الصيدلة، والأطباء، والممرضين، وسوّاقي التوصيل، وعمال النظافة، والمعلمين عبر الإنترنت. وفي المملكة المتحدة؛ حيث سعى وزير الخزينة إلى الحفاظ على الوظائف بدلاً من توسيع إعانات البطالة، تقوم الشركات الآن بمناقلة الأشخاص داخلياً -كما فعلت شركة “ماركس أند سبِنسر” حين نقلت الموظفين في متاجر التجزئة والملابس إلى طوابق بيع المواد الغذائية. وفي الخارج، يبدل عمال الطيران والإدارة دبابيس الأجنحة وشارات الأسماء التي كانوا يثبتونها على صدورهم بملابس موزعي سلع البقالة والطعام.
ولكن، ما الذي سيكون لدينا في نهاية كل هذا؟ الجواب، للأسف، هو البطالة الجماعية. فقد خسر أكثر من 200.000 بريطاني في مجال الضيافة والترفيه وظائفهم في شباط (فبراير) وآذار (مارس)، وتشير معظم التوقعات إلى أن الرقم سيستمر في الارتفاع -من معدل بطالة في جميع أنحاء المملكة المتحدة عند أقل بقليل من 4 في المائة إلى 6 في المائة في الأشهر المقبلة. وسوف تضرب الآثار المالية المباشرة لـ”كوفيد-19″ البعض بشكل أسرع بكثير من غيرهم، ولكن المفاضلات التي سيتم إجراؤها أثناء عملية التعافي ستكون مؤلمة لنا جميعاً.
يقول البعض إن اقتصاد كورونا هو الاشتراكية: تأميم واسع لجزء كبير من الاقتصاد. لكن الأمر ليس كذلك. في بريطانيا، تم تصميم استراتيجية الحكومة لضمان أن يكون هناك اقتصاد سوق للعودة إليه بمجرد انتهاء هذا. وهذه السياسات هي قوارب نجاة لشركات القطاع الخاص والموظفين، الذين يعانون من الإغلاق الإلزامي لجميع الأنشطة العادية. لكنه مكلف للغاية أيضاً، والتكلفة تأخذنا أبعد من حافة ما نعرفه، إلى منطقة نقدية ومالية مجهولة. ومن المتوقع الآن أن يصل العجز في المملكة المتحدة، الذي كان تحت السيطرة قبل بضعة أسابيع فقط، إلى 10 في المائة من الناتج الاقتصادي: حتى أكثر مما كان عليه في ذروة الانهيار المالي للعام 2008.
هل تتذكرون مدى قلق الجميع بشأن طباعة النقود في ذلك الوقت؟ هل تتذكرون كل تلك المناقشات حول ما إذا كان ذلك سيؤدي إلى تضخم على غرار زيمبابوي، أو أنه سيضخم أصول فائقي الثراء؟ لم يكن هناك وقت للنقاش في هذه الجولة الراهنة، وألغى مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أي قيود على طباعة النقود ومشتريات السندات، وسحب كل رافعة تحت تصرفه تقريباً للإبقاء على الاقتصاد طافياً. وقرر بنك إنجلترا مسبقاً طباعة 200 مليار جنيه إسترليني، باستخدام الأموال التي تم إنشاؤها رقميًا لشراء سندات الحكومة والشركات -مما يجعل الفائدة على الديون الحكومية منخفضة بشكل مصطنع. وتخطط وزارة الخزانة لاقتراض 45 مليار جنيه استرليني هذا الشهر وحده للمساعدة على تمويل دعم “كوفيد-19”. ماذا ستكون الآثار طويلة الأجل؟ هل سيكون وصول التضخم الذي يُخشى كثيرا الآن حتمياً؟ سوف نعرف في وقت قريب بما يكفي.
كانت خطط مستشار الخزينة، ريشي سوناك، للإنفاق وهباته تتطابق مسبقاً مع نموذج ميزانية غوردون براون -كان ذلك قبل تخصيص الحزم الهائلة لدعم الأعمال التجارية والموظفين بأجر والعاملين لحسابهم الخاص خلال أزمة “كوفيد”. ولكن، على الرغم من أن الإنفاق أصبح الآن أكبر، إلا أن الجميع يظلون هادئين بشأن الحديث عن العواقب المحتملة. هناك شعور في الوقت الحالي بأنه لا ينبغي ادّخار سنت واحد -لكن اقتصاد كورونا، مثل أي نوع آخر من الاقتصاد، هو دراسة للموارد النادرة. ويتضمن ذلك الطعام، ولفائف ورق التواليت، ومعقم اليدين، والنقود.
الآن، قُضيَ على ما يقارب العقد من إجراءات التقشف للسيطرة على إنفاق بريطانيا، في غضون أسابيع فقط وما تزال التكاليف في ارتفاع. ويعتقد معهد الدراسات المالية أن بريطانيا يمكن أن تعود إلى الطبيعية بعجز في الميزانية لهذه السنة المالية بقيمة 200 مليار جنيه إسترليني -أو أكثر. وسواء بدأ الانتعاش في غضون بضعة أسابيع أو في ستة أشهر، فقد أصبح من المحتم الآن أن يرتفع الدَّين بشكل كبير، مما قد يؤدي إلى وصول المملكة المتحدة إلى ذروة ديون وطنية تزيد على 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. هذه بالضبط هي النتيجة التي أمضت بريطانيا عشرة أعوام مؤلمة في محاولة تجنبها. وعندما عرض مستشار الخزينة المساعدة على العاملين لحسابهم الخاص، فقد ألمح أيضاً إلى أن معدلات ضرائبهم سترتفع عندما ينتهي هذا الوضع. لقد خلق اقتصاد كورونا مجموعة كاملة من السوابق الجديدة: أحدها هو أن الدولة، في الحالات القصوى، تنقذ العمال -حتى أولئك الذين يعملون لحسابهم الخاص. ومن الآن فصاعدا، سيتعين عليها أن تتقاضى منهم رسوماً مقابل شبكة الأمان هذه.
ربما تكون هذه هي النقطة الأكثر خطورة على الإطلاق. قالت الحكومة إنها ستمسك جميع هذه الشركات والعمال عندما يسقطون. لكن على الوزراء أن يقترضوا كل جنيه يقدمونه الآن لدعمهم. وتبدو الاستجابة الكاملة لـ”كوفيد-19″ مبنية على افتراض كبير: أن الأسواق ستستمر في الإقراض لحكومة المملكة المتحدة حتى تتمكن من القيام بكل ما هو مطلوب. ولكن، ماذا لو لم أنها لا تفعل؟ ماذا لو اختنق العرض الائتماني وقمنا بطباعة قدر كبير من النقود بالقدر الذي نجرؤ على طباعته؟ الآن، الاستراتيجية هي الأمل في أن لا يظهر هذا السؤال أبدًا.
سوف يستغرق حل المشكلات التي يطرحها اقتصاد كورونا أكثر من مجرد المال، ومن غير المرجح أن تنفع كتب القواعد الإرشادية القديمة -سواء من اليسار أو اليمين. يجب أن يستمر الحافز والابتكار وسعة الحيلة التي يظهرها الناس خلال هذه الأزمة في فترة تعافينا. لكن هذا سيتطلب الحظ أيضاً. إذا كنا محظوظين، فإن هذا الوضع لن يستمر طويلاً بالقدر الذي يُخشى؛ قد يختصر اختراق طبي مفاجئ الإغلاق إلى مجرد أسابيع بدلاً من شهور؛ ويستطيع الاقتصاد أن يعود هادراً. ومثلما بدت هذه الكارثة وكأنها تنبثق من العدم، كذلك قد يكون العلاج الذي يمكن أن يُرسل “كوفيد-19” -واقتصادياته العاصفة- إلى الحبس في كتب التاريخ.
*مراسلة شؤون الاقتصاد في مجلة “ذا سبيكتيتور”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Coronomics: Ordinary remedies won’t be enough for a surreal crash