يبدو أن الخروج من عنق الزجاجة بالنسبة إلى السوريين قد بات ممكنًا، فالاتفاق الروسي التركي يوحي بجدية طرفيه، وهما طرفان لدودان وحّدت بينهما مصالح مشتركة اضطرتهما إلى التوافق على الشروع في حل سياسي يحاول فكّ العقد التي تشابكت إلى درجة ظُّن أن فكها أمر دونه خرط القتاد.
هي الدوامة الحلزونية التصاعدية للعنف في المشهد السوري التي تتحرك بتأثير بنى موضوعية تشتغل على متغيراتها قصدية فاعلين من النخب وغير النخب، والتي كان لا بد لها أن تصل إلى مرحلة تتوقف عندها عن التصاعد.
هؤلاء الفاعلون الثوريون الذين لجؤوا إلى دينامية التحالف منذ البداية في غياب للتبصر السياسي الذي أثبتوا افتقارهم إليه؛ لأن اللجوء إلى التحالف لم يكن بدالة ما تتطلبه غاياتهم، وإنما لكسر عظم خصمهم فحسب.
وهي دينامية تضفي صبغة الحرب الأهلية على الصراع، وتحرفه عن مساره الثوري، وهي على حالتها تلك.
المهم أن حليف النظام الروسي قد استطاع أن يفرض رؤيته، وهو كما يبدو ماضٍ في تجسيدها بعد أن وصلت الأمور إلى نقطة حقق فيها ما يصبو إليه من تأكيد نفوذه، وفرض إرادته على الساحة الدولية، والمهم أيضًا أنه يبدي نوعًا من المرونة لا يملك السوريون في ظلّ ما وصلت إليه المأساة السورية إلا أن يبدوا قدرًا من التجاوب معها.
الإيجابي في التحرك الروسي أنه يتم بالتنسيق مع حليف المعارضة التركي، وبتهميش واضح لنظام الملالي يمنعه، أو على الأقل يكبح طموحه في تنفيذ مشروعه الطائفي؛ لأنه لا قبل له بمجابهة الروس.
تبدو المعارضة السورية بعد حلب، والاتفاق الروسي التركي لاعبًا غير أساسي في المشهد، شأنها شأن النظام السوري، وهو مآل طبيعي بعد أن سلم الطرفان مقاليد الأمور إلى لاعبين خارجيين، ولكن ملامح الاتفاق تشي بإمكانية كسب نقاط لصالح المعارضة السورية، وخسارة أخرى مقابلها من جيب النظام.
فالحديث عن استمرار رأس النظام صار حديثًا مجهورًا به، ويبدو أن الروس لا يجدون حرجًا في مناقشته، كما أن الأتراك يصرون على أن سوريا الجديدة لا يمكن أن تكون بوجود رأس النظام.
واتكاء النظام على حليفه الطائفي صار اتكاءً على ركن ليس قويًا بين اللاعبين الأقوياء، وقد يُفرض عليه وعلى حليفه القبول بحلول تفكك عرى الارتباط الشيطاني بينهما.
ما يجب التنبه إليه أن الصدع الأساسي بين النظام والثورة قد انبثقت عنه صدوع فرعية عديدة تدور على مدارات متفاوتة المسافة من الصدع الرئيس، و المفاوضات التي يجري الإعداد لها بين الطرفين بحضور الأطراف الأخرى يتصدره في الطرف المعارض فصائل مسلحة إسلامية الصبغة، والحال أن هذه الفصائل قد صار تصدرها للطرف المعارض أمرًا واقعًا لا يمكن تجاهله، وقد صُنفت بطريقة تفتقر إلى الدقة على أنها فصائل معتدلة، ولكن الحقيقة أنها كانت علة أساسية من علل حرف الثورة عن مسارها، وسببًا رئيسًا من أسباب تفريخ الصدوع الفرعية من الصدع الرئيس.
إن لهذه الصدوع في الحالة السورية طبيعة تؤهلها لأن تكون ذات قدرة تخريبية لأي باب يشرع لحل يلبي طموحات السوريين، فهي تتغذى في الدرجة الأولى من أيديولوجيا ظلامية لا تكاد تجد فيها مساحة ولو صغيرة لمفردة الوطن، ولا تركيبًا ذا مدلول حقيقي لغاية الدولة المدنية الديمقراطية التعددية إلا على سبيل التكتيك المفضوح الذي لم يعد يصدقه أحد.
يجب التشبث بأي بصيص أمل يوقف مقتلة السوريين حتى لو كان من يبشر به حليف النظام الروسي، ولكن المهم هو الاستعداد للمرحلة القادمة بأدوات جديدة وبأساليب جديدة، لا تترك الساحة فارغة لمن فرضوا وجودهم بقوة السلاح، وبخطاب لا صلة له بآمال السوريين، وباستثمار مقدس لا يمثل المقدس المشترك للسوريين على اختلاف انتماءاتهم.
رئيس التحرير