لم يكن سقوط الشابّ ذي السبعة عشر ربيعًا مضرجًا بدمائه برصاص الأمن العسكري في مظاهرة سلمية أمرًا مستغربًا، فلم يكن ممكنًا لعاقل أن يظنّ بنظام الأسد خيرًا، او أن يصدق أنه سيرأف بحال متظاهرين عزّل، ولكن الغرابة كانت في الشعار الذي رفعه الشاب قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، فبينما كان رفاقه يلقنونه الشهادة رفع يده بشارة النصر.

وبالمقابل صدح رفيق آخر له يكبره ببضع سنوات، وهو محمول على الأكتاف بأهزوجة تناشد الرصاصة أن تستقرّ في جسده لينال الشهادة.

بين الأول والثاني مسافة لا يستهان بها في الأفق العقلي، وتباين كبير في التصور الذي يحمله كل منهما عن الحياة وغايتها، وعن الثورة وأهدافها.

ولكن ما يجمع بينهما أن كليهما ينظران إلى النظام الاستبدادي على أنه النقيض المطلق للحق، سواء أكان حقًا في الحياة الحرة، أم حقًا تقره تصورات دينية.

كلاهما مستعدان لدفع الروح ثمنًا لهزيمة هذا الباطل الذي كان واضحًا أنهما لا يشوبهما الشك في اتّسامه بكلّ ما يجعله مستحقًا لدمغه بهذه الصفة.

تغيرت الظروف بعد سنوات تصرّمت، وواجه النظامَ استبداد من نوع آخر، وغابت صيحة الحق في الحياة والحرية، وصيحة الحق الطالبة للشهادة السلميتان خلف أزيز رصاص مستبدين، النظام وحلفائه، والتطرف وحلفائه.

ويبدو أن الجولة الأولى تنذر بتفوق في المعركة لصالح النظام، فهو ينجح في أكثر من منطقة في استعادة السيطرة، وحليفه الروسي -كما يبدو- صاحب النفوذ الأكبر في ظلّ الانكفاء الأمريكي، وهو انكفاء بالمناسبة لا ينبغي النظر إليه بسلبية، فقد يكون منطويًا على بصيص أمل بان الموقف الأمريكي الحاسم لم يتخذ، وأن هيمنة الروسي لصالح حليفه الأسدي لن تستمر.

وبعيدًا عن هذا فإن ما نريد قوله: إن الانتصار في هذه الجولة ليس انتصارًا على الثورة السورية، وإنما هو نصر في معركة فرض النظام شكلها وشروطها، واختار فيها خصمه بل وساهم في وجوده.

ويخطئ من يظن أن ما جرى منذ انطلاقة الثورة السورية على كل الأصعدة في سورية لن يترك آثارًا تتغلغل في نسيج المجتمع تنفخ فيه روح الثورة التي فجرها أمثال الشهيدين اللذين ذكرناهما في البداية.

وفي تاريخ الثورات دليل على هذا، فقد كان لثورات عام 1848 في أوروبا على الرغم من قمعها آثار لا يختلف في أهميتها اثنان في قدح شرارة الثورات اللاحقة التي أطاحت بالأنظمة الشمولية بعد عقود.

ولهذا فإن الثورة السورية لم تنته، ولم تهزم وإذا كان النظام قد كسر شوكة من يواجهونه في ساحات القتال، فهو لم يحقق نصرًا على يقين رافع شارة النصر، ولا على يقين طالب الشهادة السلميين، لأنهما رمزان حقيقيان للثورة السلمية بما يحملانه من يقين بباطله، وبما يحوزانه من تفوق أخلاقي عليه، وعلى من والاه.

إن السياق التاريخي حوض مائي يغلق سكورًا أمام ممكنات، ويفتحها أمام ممكنات أخرى أكثر قابلية للتحول إلى واقع، ونحن إذا صدقنا أن السكور لم تكن مفتوحة لممكن الثورة السورية، بزعم أن الشعب غير مستعد لها، فإن ما شهدناه من إجرام النظام، وما خبرناه من استعداده بلا حياء لتقديم البلاد هدية لأسياده في سبيل البقاء يورثنا يقينًا لا لبس فيه أن ممكن الثورة هو الممكن الوحيد، الذي يجب أن تفتح له سكور السياق التاريخي، وهو يقين بالحق في الحياة، وبالحق في مواجهة الباطل في درجة يقين رموز الثورة السلمية، وليس يقينًا زائفًا يتجمل بنصوص مقدسة لكي يستر عورة شكه وارتيابه.

إذا كان الزعم بأن الشعب لم يحقق أهدافه بسبب عدم استعداده للتغيير عند انطلاق الثورة، فهو الآن في أتم الاستعداد، وعلى المفاوض أن يدرك أن سقفه إذا انخفض عن الحق في الحرية فإن هذا السقف سيخرّ عليه، ويهشم رأسه، ويحيله خائنًا لدم الفتى المؤمن رافع شارة النصر.

رئيس التحرير