لا تكاد تفهم سر هذا التبجيل الذي يصل حدود التقديس لحافظ الأسد لدى الكثير من أبناء طائفته، وخصوصًا عندما تكون قادمًا من بيئة ينظر أفرادها إلى الرجل نظرة احتقار، وتستولي على قلوبهم مشاعر البغض تجاهه.
إن تفسيرًا مسطحًا شائعًا يمكن أن يزيح عن كاهلك مؤونة استفراغ الجهد في فهم المفارقة، وهو تفسير لا يقدم إضافة ذات شأن؛ لأنه يعزو هذا التقديس إلى انتهازية مصحوبة بالجهل، والتعصب الطائفيّ.
ولكن المقدس لا يصبح كذلك ما لم يقم على عنصر الغموض، وما لم يعتور محاولات معرفة كنهه فضّ مغاليق، وإزاحة أستار، وفضح أسرار.
في ذكرى وفاة حافظ الأسد، الرجل الذي ظل الغموض يصبغ شخصيته منذ ما قبل استيلائه على السلطة، وعبر محطات كثيرة من عهده الذي أصبح جزءًا من تاريخ سورية، يضاف متغير آخر يؤكد أن لهذه الشخصية قدسيتها عند أتباعه، وهو ما لا نظنّ أحدًا يستطيع دحضه من كونه لم يمت إلا بالمعنى الحرفيّ لكلمة موت؛ بمعنى تغييب الثرى لجسده، ولكنه لا يزال حيًا بتأثيره، وبتركته الثقيلة، وبذريته التي تستمد تشبثها بالسلطة مما تعده حقًا موروثًا منه.
يموت المقدس عندما يُرى، وهو ما تؤكده الأنثروبولوجيا الدينية الحديثة، وهو ما يمكن أن تعثر عليه عبر بحث استقرائي للميثولوجيا.
وهو ما يمكن أن تجده بدون عناء في العمل الروائي البديع لنجيب محفوظ” أولاد حارتنا” الذي يكثف هذه الفكرة في موت الجبلاوي عندما يتمكن عرفة القادم من الخلاء من هتك حرمة بيته، وكشف سر كتابه اللامرئيّ.
ربما تنازع المقدس والمدنس زاويتي النظر إلى حافظ الأسد، فهو مقدس لدى من لم يستطيعوا أن يكشفوا سره، ولم يجدوا فيه إلا المنقذ الذي كبر مع التاريخ، والذي حافظ على كتاب أسراره بعيدًا عن أعين رعاياه؛ ولهذا لم يمت على الرغم من رحيله. وهو مدنس عند من لم يروا في غموضه سوى عنف رمزي مضاف إلى عنفه المادي الذي تجرعوا علقمه طويلًا.
ولعل أحد أسباب تطاول الصراع بين معارضي النظام وبين الموالين له هو أن هذا الصراع في أحد أشكاله هو بين حراس للمقدس يأبون هتك سره، وبين ثائرين على مدنس عازمين على تعريته، وكشف قبحه.
المفارقة الأكثر إيلامًا أن الثائرين على ما يعدّونه مدنسًا لم يستطيعوا -وهم بصدد فضّ سر هذا الدنس- أن يؤسسوا لنظام إنتاج معانٍ جديد يملأ الفراغ الذي تركه رحيل مقدس خصومهم، وظلوا يستنسخون المعاني التي كرسها الأخير.
بينما استطاع المدافعون عن قداسته أن يحفظوا عهدهم لنظام معانيه بكل ما تكتنزه من شرّ يؤوله نظامهم السيميائي تأويلًا مناقضًا.
وهو أحد أسباب طغيان الفوضى على مسيرة الثورة.
المقدس لا يزال حيًا في قلوب أتباعه، وهم أحرص ما يكونون على حراسة قدسيته.
والمدنس قد مات في نظر خصومه، ولكنه لم يرحل إلا بعد أن أفقدهم حتى الآن القدرة على اجتراح نظام بديل للمعاني التي رسخها عبر ثلاثة عقود.
هو العجز الذي سبب فقدًا للنظام الرمزيّ البديل أحدث فراغًا استطاع الاستبداد الإسلامي ملأه، والذي لا يكفي للتخلص منه لا طائرات التحالف، ولا اتفاق طال انتظاره بين ترامب وبوتين.
إنها مهمتنا بعد أن ثرنا على العنف المدنس أن نسحب من أيدي خصومنا سر تفوقهم، وهو امتلاكهم نظامًا للمعاني موروثًا من مقدسهم الحيّ، وأن نصوغ نظامًا ثقافيًا جديدًا حداثويًا، قائمًا على التوجه الوطنيّ الشامل، متجذرًا في التسامح، والاعتراف بالآخر المختلف، بالفعل لا بالقول.

رئيس التحرير