رئيس التحرير

وقف محام سوداني شاب أثناء إحدى جلسات محادثات السلام في دارفور ليعلن أن السودان لم يعد له وجود كدولة وأنه تشظى إلى أربعة أجزاء:
المثلث العربي في وسط البلاد، ودارفور في الغرب، والجنوب، والشرق الذي يتألف من مناطق النيل الأزرق وكسالا والبحر الأحمر حيث يشكل العرب أقلية.
وأن كل منطقة منها قد أصبحت عرضة لتدخلات خارجية.
بعيدًا عن أن كلام المحامي الشاب قد سبب غضب ممثلي حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان، ولكنه كان يعبر بشكل مكثف عن حقيقة قدرة قوى الطرد المركزي على تشظية البلاد وعلى جعل التدخل في شؤونها أكثر يسرًا.
ومن تلاقح قوى الطرد المركزي التي ساهمت الطغمة الحاكمة في تقويتها مع التدخلات الخارجية التي لا تعدم وسائل لتبريرها يصبح ممكنًا تحليل ما يجري بدون إفراط في العاطفة، وإن كان لجموع السودانيين الهاتفين للحرية خالص الحب ولليلة رقصهم التي طال انتظارها ترفع القبعات.
ونقصد بقوى الطرد المركزي عوامل جعلت من شبه المستحيل على أي نظام حاكم في السودان أن يلم ما بعثرته الجغرافيا والعرق وعوامل أخرى.
عامل الطرد المركزي الأول هو الجغرافيا فقبل انفصال السودان كان السودان بحجم البر الرئيس للولايات المتحدة شرق نهر المسيسبي وبحجم أوربا الغربية حيث يمتد السودان على مساحة مليون مترًا مربعًا.
وثمة سهل واسع يمر عبر وسط السودان تتخلله جبال وتلال وفي الجهة الغربية الشمالية من البلاد تقع طبقة المياه الجوفية النوبية العظيمة التي تقع تحت سطح الصحراء الكبرى وهي ضاربة في القدم وتمتد إلى مصر وليبيا وتعادل في الحجم ألمانيا.
السهل والماء جعلا من الرعي مهنة مثالية لقبائل السودان المختلفة في الجنوب والشمال، وهو ما نتج عنه أنظمة تقليدية تستعصي على التشكل وفق أنظمة سياسية اقتصادية حديثة.
عوامل الطرد المركزية الأخرى وهي القبيلة والدين واللغة والعرق؛ ففي السودان قرابة ستمائة قبيلة تتحدث 133 لغة ولهجة وفي القبيلة الواحدة قد توجد لهجات تجعل التفاهم بين الأفراد من فروع القبيلة الواحدة متعذرًا.
وبينما ينتمي السودانيون في الجنوب إلى عرق واحد ولكنهم منقسمون إلى مجموعات قبلية فرعية، أما عرب الشمال فمعظمهم ينتمون إلى القبائل النوبية التي تبنت اللغة والثقافة العربية فأكثريتهم ليسوا عربًا بالدم.
عوامل الطرد المركزي هذه حاولت الأنظمة السودانية مختلفة مقاومتها بفرض سياسة تعريب وأسلمة زادت من قوتها وشدت من أزرها بدل أن تفعل مفعولًا جاذبًا عكسيًا.
ومن اللازم ربط عوامل الطرد المركزي مع الاهتمام الدولي الذي زادت وتيرته في الحقب الأخيرة بسبب عدة عوامل يمكن إجمالها في أربعة عوامل:
العامل الأول الحرب الأهلية التي استمرت لعشرين سنة بين الشمال والجنوب (1983-2005) ، والتي أدت إلى وفاة 2.5 مليون شخص وتشريد 4 ملايين آخرين، و تمرد دارفور الثالث، الذي وصف بأنه “إبادة جماعية”، وهو منفصل عن الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب ولكنه ذو صلة بها.
ويذكر هنا أن الرئيس الأمريكي أوباما قد أثنى على نظام البشير بعد اتفاق السلام وتناسى كل مجازره بحق شعبه وكان قبل ذلك قد قدم له وعودًا كثيرة للعودة إلى الحظيرة الدولية ورفع العقوبات إذا وافق على اتفاق سلام شامل، وهو دليل يساق فقط للتذكير بانكسار الميزان الأخلاقي للدولة العظمى.
العامل الثاني هو الموارد الطبيعية الهائلة في السودان والتي لا تقتصر على الثروة النفطية التي لم تكتشف منذ زمن بعيد، ففي السودان كميات هائلة من الذهب والماس والنحاس وغيرها من المعادن، كما أنه يحتوي على تربة غنية يمكن أن تنتج ثروة زراعية لا يبالغ الأخصائيون عندما يقولون إنها تستطيع تغذية إفريقيا والعالم العربي كله، ولا ننسى الثروة المائية التي يجدر بالذكر أنها العامل الأكثر أهمية في العلاقة المصرية السودانية.
فقد كان مشروع إنشاء قناة في الخرطوم يرفع منسوب مياه النيل إنجازًا سيقدم النفع لمصر، وهو ما عارضه الجنوبيون طويلًا لما يمكن أن يتسبب به من أضرار بالغة لمناطق الصيد الجنوبية ولما يمكن أن يحدثه من تعريض قطعان الماشية المستأنسة في الجنوب للخطر، وإنقاص عدد الحيوانات البرية في الأهوار، وتغيير المناخ الجنوبيّ. وهو ما جعل نظام مبارك يعارض انفصال الجنوب وهو ما يبدو أن نظام السيسي لا يوليه اهتمامًا كبيرًا بعد أن أصبح واضحًا عدم اكتراثه ببؤس وشقاء المصريين.
هذه الثروات جعلت من السودان موضع تنافس دولي لا تتخلف عن مضماره الصين وروسيا والولايات المتحدة ودول كثيرة أخرى.
والعامل الثالث من عوامل زيادة الاهتمام الدولي اختلاف الرؤية الدينية الإسلامية – المسيحية التي سببت صراعات امتدت عقودًا فالحكومات الأربع التي حكمت السودان منذ عام 1956 شنت حملات قمع عنيفة ضدد مسيحيي الجنوب، وهو ما كرّس الاستقطاب بين المسلمين والمسيحيين وسرّع من انتشار الكنائس، وحرّض على اهتمام الكنائس الكبرى في العالم بمأساة مسيحيي الجنوب.
ولا تقتصر الاختلافات في الرؤى الدينية على ما ذكر، ولكن الاختلافات في الرؤى موجودة داخل الرؤية الإسلامية نفسها، فبينما ينتشر الإسلام الصوفي في الأرياف المسلمة يسيطر على ما يسمى بالمثلث العربي رؤية تعدّ التصوف رؤية منحرفة للدين.
وقد كان لمشروع حسن الترابي دور كبير في التخوف داخل السودان وخارجه لدى الدول المجاورة؛ لأن للمشروع طابعًا توسعيًا يصبو إلى أسلمة السودان وما جاوره من الدول الإفريقية التي طالما عاش فيها المسلمون والمسيحيون في وئام.
العامل الرابع هو ما انتهجته حكومة السودان الأخيرة من سلوك مريب تمثل في فتح أبوابها أمام قيادات تنظيمات متطرفة وجعل أراضيها ملاذًا آمنًا لهم.
لا شك أن الدكتاتورية طويلة الأمد وفشلها في تأمين احتياجات الناس وتحويلها السودان إلى دولة فاشلة هي عامل أساسي في انتفاضة السودانيين، ولكن ما جعل جسد هذه الدكتاتورية القوي عرضة للنهش هو فشلها في التغلب على عوامل الطرد المركزي ومنحها التدخلات الخارجية ذريعة أكبر مضافة إلى عوامل موضوعية تجعل هذه التدخلات غير محتاجة إلى ذريعة.
وقد ساهم في ضعف تحصين النظام وضعه الجيش تحت سلطة الأجهزة الأمنية خشية تمرده وهو ما حصّنه إلى حين ظهور بوادر عجزه عن الاستمرار في شراء ولاء المؤسسات الأمنية بعد انفصال الجنوب وذهاب عائدات النفط وانخفاض الموارد التي كان يشتري بها الولاءات.
ولعل نظام البشير قد أدرك أن قوته تتداعى فعمد -كما يؤكد مراقبون كثيرون- إلى تحويل مليارات الدولارات إلى ماليزيا ودول الخليج لشراء عقارات باسم الحزب المؤتمر الوطني كخط دفاع أخير يلوذ به إذا حدث تمرد وشيك أو ثورة شعبية.
إن تركيز الإعلام غير البريء على صعود فتاة سمراء على ظهر سيارة وترديدها كلمة ثورة ليس إلا محاولة أخرى لتكريس الوهم أن مطالب الشعوب هي الفاعل الأساسي في التغيير في منطقة تتلاقح فيها عوامل الطرد المركزي وأطماع الغرباء وتحيلها إلى مزق. وهي محاولة مريبة لدغدغة مشاعر هذه الشعوب بشعارات براقة.
سنظل نراهن على إرادة الشعوب ولكن كسبنا للرهان يتطلب فهمًا أعمق لمتغيرات الواقع الذي تشبه فيه اضطرابات السودان عبر تاريخه رياح الهبوب الجارفة التي تجتاح مناطقه فتعمي الأبصار، وتشبه فيه مطالب الحرية والعدل نسمات رقيقة عابرة على ضفاف النيل.