رئيس التحرير

أن يموت رئيس منتخب في المحاكمة بعد سنوات من الاعتقال حدث لا يمكن أن يمر مرور الكرام، وهو جريمة موصوفة سواء أكان قد قتل بالإهمال المتعمد أم لا، وهي مسؤولية يجب أن يتحملها النظام الحاكم في مصر مهما كان رأي المراقب في شخص مرسي، وأيًا كان موقفه منه.

ولكن المطلوب بعد الترحم على الراحل هو محاولة فهم ما جرى بصورة أكبر.

فعلى الرغم من أن وصف انتخاب مرسي بأنه عملية ديمقراطية ناجزة ومتبلورة مجانب للصواب؛ لأنه اختزال للديمقراطية في صندوق اقتراع يفرغها من محتواها، ومن كونها قيمة، ويحيلها إلى مجرد وسيلة. وهو ما دأب الإسلاميون -في معظمهم- على تكريسه؛ لأن المبدأ المركزي الذي ينظم تفكيرهم يصعب أن يتوافق مع ماهية الديمقراطية التي لا تقبل بأي مبدأ مركزي سواء أكان الله، أم النصّ، أم التاريخ. وقصور الجسم الأساسي في الحركات الإسلامية عن فهم ما تمثله الديمقراطية من قيمة العدالة التوزيعية للسلطة يصلح للارتياب في صدق تمثلهم للديمقراطية، و في براغماتيتهم المتمثلة في التوسل بشكل للديمقراطية لتحقيق أهداف تتجاوز حدود الوطن، وتلغي ،من ثم، أي حديث جاد عن ديمقراطية حقيقية.

نقول: على الرغم من كل هذا، وعلى الرغم من أن من أركان العملية الديمقراطية هو الأداء والإنجاز، وليس مجرد الاعتماد على أغلبية أصوات الناخبين، فإن كل هذا لا يبرر الانقلاب العسكري الذي أطاح برئيس منتخب، ولا يبرر إلقاءه في المعتقل إلى أن يلقى حتفه.

لقد أجهضت ثورة المصريين بعزل مبارك، وهو ما يبدو الآن عملًا مخططًا له؛ لتسكين نقمة المصريين والالتفاف على مطالبهم المشروعة.

كان لا بد من الاقتصار -في ظل الدولة العميقة وإرث الاستبداد- من اللجوء إلى أداة الاقتراع، والاقتصار على هذا الجانب الوسيليّ من جوانب الديمقراطية، ولكن كان لا بد أن ينكشف عوار الاقتصار عليه بعد حين.

فهو يمكن أن يأتي برئيس منتخب، ولكنه لا يستطيع أن يدرأ عنه سلطة الدولة العميقة، وأشباح نظام الاستبداد السابق ومنتفعيه.

ويمكن للصندوق أن يأتي برئيس منتخب، ولكنه لا يكفي لتخليصه من تراتبية جماعته التي تنازع وتغالب صفته المفترضة، وهي صفة رجل الدولة وتحيلها إلى صفة ملحقة بموقعه في الجماعة.

إن ما جرى في أحداث الربيع العربي يؤكد أن وهم قدرة الشعوب على إحداث التغيير الديمقراطي قد اصبح واضحًا؛ لأن المنطقة العربية مضطرب عوامل جاذبة ونابذة لقوى جبارة، وقد ران عليها الاستبداد والفساد لعقود؛ بحيث أصبح اجتثاثهما مسألة بالغة التعقيد والصعوبة، وخصوصًا أن صفتي الاستبداد والفساد لم تعودا تقتصران على الأنظمة السياسية، وإنما وسمتا المجتمعات والجماعات والأفراد.

لا بد أن تبقى المراهنة على إرادة الشعوب، ولكن كسب الرهان يتطلب فهمًا عميقًا لمتغيرات الواقع.

ما جرى في سورية يؤكد أكثر من أي مكان آخر أن ما يسمى بالعالم المتقدم ليس بصدد المساعدة في انتقال ديمقراطي في هذه المنطقة، وأنه يعبث بإرادة الشعوب وتطلعاتها بوسائل شيطانية وبالغة  التنوع.

الرئيس المنتخب الراحل -رحمه الله- يمثل حالة جد متقدمة -على قصورها عن الغاية- على عصابة العسكر، وأظن أن حدث رحيله المفجع -ظلمًا- يمكن أن يمثل حلقة من منطق التاريخ، وليس من حتميته المزعومة، وهو منطق تعاكسه وتضاده الأنظمة الشمولية. وهو، لذلك، يمثل رضة حقيقية في جسد نظام الاستبداد في مصر، ويبشر بأن الصراع لم يحسم لصالحه، ولا لصالح قوى ممانعة التغيير الديمقراطي الغربية وأذنابها في العالم العربي.

وهو حدث يمكن أن يستبشر بأثره؛ لأنه قتل غير مباشر لرئيس منتخب على يد جلاوزة مغتصبين للسلطة، ولا شك أن وجدان الشعوب الجمعيّ يختزن هذا الأثر ويراكمه مع غيره؛ لكي يفتح يومًا ما -نرجوه قريبًا- أبواب الحرية.