رئيس التحرير

“لا يعرف حافظ الاسد فيق من عين فيت” كرر هذه المقولة على مسامعي مرارا حمد عبيد وزير الدفاع السوري عام 1963، وكان يقصد أن حافظ الأسد يجهل -بحسب عبيد- جغرافية الجولان السوري الذي تقع فيه هاتان المنطقتان.
وكان عبيد يؤكد جازمًا أن حافظ الاسد قد سلم الجولان في صفقة ثمنها مساعدته في الاستيلاء على السلطة بعد ذلك ببضع سنوات.
إن الخبر الذي يكاد يتواتر -وإن بشكل غير مقنن- عن تسليم الأسد الأب للجولان لا وزن له أمام استباحته لسورية وتحويلها إلى مزرعة للموالين من أبناء طائفته وغيرهم.
والحق أن الأسد مع جهله المفترض بالجولان الذي ظل يستخدم قضيته في خدمة خطابه الممانع المؤطر بأيديولوجيا القومية العربية كان يمتلك التمثل المعرفي للواقع الذي يعنيه، وهو واقع اللعب على تناقضات الحالة السورية والتسلل عبر هذه التناقضات التي تنسجها السرديات الكبرى في أذهان النخب والمفروضة فرضًا على عامة السوريين في الفراغ الحاصل في البيئة السياسية نتيجة غياب الجسور الواصلة بين هذه السرديات وبين حاجات الناس المتعينة.
ولذلك فقد أتقن رسم واقع رمزي قائم على أيديولوجيا القومية العربية مشتقًا منها خطابه السياسي بينما ملأ الفراغ بمتعين هو شخصه الذي عمل على تحويله إلى متأله بالاستناد إلى قاعدة طائفية تخالف العالم الرمزيّ المصنوع الذي يمتح من أيديولوجيا القومية العربية.
ولما كانت المفارقة بين العالم الرمزيّ والواقع كفيلة بشحوب الأول لحساب مزيد من التعيين للثاني، فقد خلّفت الأحداث في سورية نزاعًا أهليًا بين مرتبطين بنظام يمثل زواله تهديدًا جديًا لهم، وبين ناقمين على إقصاء مارسته سياساته الطائفية الواقعية، والعنف الرمزيّ لشعارات قومية عنصرية.
وإذا كانت سيرورة تدمير سورية تدميرًا ماديًا على يد الوريث وتسليمها للمحتلين الروسي والإيراني ليست مستغربة؛ لأنها نتيجة لازمة عن مقدماتها، فإن المستغرب هو استمرار السرديات الكبرى في الهيمنة على عقول النخب على الرغم من كل الخطابات عن الوطنية السورية الجامعة.
لا تزال الهوية السورية مفتقرة إلى شرط أساسي لتبلورها وهو السعي إلى تحديدها انطلاقًا من إدراك لواقع التنوع، وعدم تجاهله لصالح أيديولوجيات إطلاقية تتجاوزه، ومشاريع طائفية يتجاوزها، أو التذرع بهذا الواقع لتبرير دعوى عبثية تشكيل وطنية سورية.
ويتطلب إدراك الواقع تمثلًا مفهوميًا له يُشتقّ منه تمثيل سياسيّ، فلن يكون أي تمثيل سياسيّ غير قائم على إطار معرفيّ محيط بتفصيلات الواقع إلا تمثيلًا مشوّهًا مضعفًا للوطنية السورية.
ولهذا فإن محاولة القفز على واقع التشظي الطائفي إلى متخيل وطني جامع ليس إلا إمعانًا في تجاهل الشرط المؤسس للهوية السورية، ومبالغة في الخطأ الذي يمكّن سليل الخيانة من استثمار فراغ الساحة من مشروع وطني حقيقي لصالح المشروع العائلي الطائفي.
لا نرتكب جريمة إذا قلنا إن ملامح الحرب الأهلية موجودة اليوم في سورية، وليس هذا من قبيل الإنكار لعظمة ثورة السوريين وشرعيتها، ولكنها مكاشفة للواقع الذي لا بد من تمثّله كما قلنا تمثّلًا معرفيًا محيطًا بكل تفصيلاته لاشتقاق تمثيل سياسي متساوق مع شرعية هذه الثورة ومتناغم مع غاياتها النبيلة.
وإن جهل حافظ الأسد بجغرافيا الجولان ليس بحجم جهل منتقده البعثيّ المؤدلج مع رفاقه وفرقائهم من يساريين وإسلاميين بعجز منظوماتهم عن التفاعل الجدليّ مع الممكنات من أجل تحويلها إلى واقع.
ولا يعيب ترامب أن يعترف بحق إسرائيل المدّعى في الجولان، فهو يخدم مصالحه ومصالح حليفه الإسرائيلي، ولكن الرد العاطفي من طرف أطياف المعارضة السورية على تغريدته -التي لا يبعد أن تتحول قريبًا إلى واقع- يعيب هذه المعارضة التي لم تدرك بعد أن الارتكاس الإنشائي لا يغير المواقف السياسية من جهة، ولا يرفع رصيد وطنيتها من جهة أخرى.
ولعل الخطر الذي تمثله تغريدة ترامب ليس أكبر من خطر تكريس مصطلح الإدارة الذاتية في وصف مناطق معينة في سورية في تمهيد لتكريس هذا المصطلح واقعًا.
وطننا اليوم في خطر وجودي ماثل ولا تكون مواجهته بتأكيد المؤكد عن سرقة الأسد الأب ووريثه له، ولا بالردود الإنشائية على موقف ترامب، وإنما بفك أسر طائفة النظام وإعادة دمجها في النسيج السوري، وبالنظر بجدية في مطالب الأقليات الأخرى المشروعة وفي مظلومياتها التاريخية، وقبل كل ذلك رصف الجسر الواصل بين الخطاب الوطني وبين المستهدف الأول به وهو الفرد المتعين الحر والذي هو أكبر من مفهوم الأمة والجماعة والطبقة.