يمكن لمجزرة حماة التي ارتكبها النظام الأسدي في بداية ثمانينيات القرن الماضي أن تكون حدثًا من أهم الأحداث في التاريخ المعاصر ليس بسبب ما ارتكب فيها من جرائم فحسب، وإنما لكشف عوار المنظومة الدولية القانونية والسياسية.
فأن يقتل عشرات الألوف وتغتصب مئات النساء وتختفي أحياء بكاملها في بضعة أيام ثم يقاد إلى أقبية الإجرام الآلاف ممن لا يعرف مصير نسبة كبيرة منهم إلى يوم الناس هذا، ثم لا يجري مجرد حديث عن محاكمة من ارتكب كل هذه الجرائم أمر كفيل بأن يجعل المرء يطالب بإعادة النظر بكل ما حققته الإنسانية من إنجازات على صعيد المؤسسات وعلى صعيد حقوق الإنسان.
ويظل السؤال مطلًا برأسه اليوم بعد أن ارتكبت جرائم على مستوى سورية كلها، وبعد أن فقد مرتكبها ميزة القدرة على إخفائها لاستحالة ذلك في عصر تحول فيه العالم إلى قرية صغيرة واتخذ الزمان والمكان ماهيتين جديدتين.
يمكن لما جرى في الثمانينيات ولما يجري اليوم أن يثير الريبة في دلالة كلمة الإنسان لدى منظمات حقوق الإنسان ولدى من وضع بيانات هذه الحقوق ، فلعل هذا الإنسان لدى هذه المنظمات ولدى هؤلاء المدبجين للبيانات هو الإنسان الغربي فحسب الذي اجتاز سيرورة معينة من التطور وأصبح قابلًا لاستدخال مفاهيم الديمقراطية والدولة المدنية وإزاحة عبء اللاهوت عن الحياة السياسية.
ولكن من جهة أخرى ومع التأكيد على رسوخ شكوكنا في دلالة كلمة إنسان لدى المذكورين، فإننا نحتاج إلى تقليب النظر في مدى جدارتنا واستعدادنا لتمثل قيم إنسانية كونية.
فأن يعتقد بعض المؤدلجين أن ما يسميه كفرًا يبيح له دماء طائفة كاملة، وأن يقرر لوحده أن يدفع المجموع في مواجهة غير متكافئة لأنه مكلف من الله يثير الريبة في قدرة هذا المؤدلج على تمثل ما ذكرنا.
وأن يؤتى بأفراد شديدي القسوة والغلظة لا يعرفون في مدى النظر خاصتهم سوى أفق الفخذ والعشيرة والقبيلة، ولا يمكن لهم -وحالهم هذه- أن يروا في السلطات الرسمية إلا تجسيدًا للإله لكي ينفذوا بكل وحشية ما يطلبه المذكور يرجح الحاجة إلى زمن أكثر من طويل للانتقال بالمجتمعات الحاضنة لهؤلاء إلى مجتمعات قابلة لاستنبات قيم إنسانية كونية.
وأن يتكرر مشهد المواجهة بعد عقود فلا تجد إلا زمانًا ساكنًا لا يمكن للمرء أن يصنع بسبب سكونه سردية خاصة له ومكانًا مشوهًا لا يمكن للفرد أن يتعالى فيه إلى ذرى المقدس بشكل صحي ولا أن يسيح في عوالم الفن والخيال عندما يهبط إلى أقبيته يؤكد أن من جمّد الزمان وشوه المكان هو الأجدر باحتلال السوح الزمانية والمكانية.
وأن يتكرر المشهد فتجد العفن الطائفي قد زاد، والاستقطابات على اختلاف مستوياتها قد تجذرت أكثر، وأصحاب السرديات الكبرى القابعة خارج التاريخ قد أصبحوا أكثر قوة ومضاء وتأثيرًا، فإن هذا يرسخ حقيقة الفشل الذريع في الاستفادة من التجربة المرة.
وأن يتكرر المشهد فتجد البنية القبلية قد ترسخت واتخذت شكل تمرد عشوائي محمول على أيديولوجيا دينية متطرفة، وانقسمت بسبب تماكن القديم والجديد في حيز واحد على نفسها بين التمرد المشار إليه وبين الاستمرار في عبادة الصنم، يؤكد أن ما طرأ عليها من تحولات لم تلامس نواتها الأساسية.
أن يتكرر المشهد والنخب متخندقة في أقفاصها الأيديولوجية، وتجترّ خطابًا نظريًا عن الإطار الوطني العابر للطوائف، وعن الفوات التاريخي في استخدام مكرور عديم النفع لمقولات أشخاص لم تعد عدتهم المعرفية قابلة للاستثمار يعني نخبًا تحتكر هذا الاسم بلا استحقاق.
أن يتكرر كل هذا فهذا يعني أن جريمة النظام الكبرى في حماة لم تعدم قابليات داخلية لاستحضارها وتكرارها على مستوى أكبر وأشد فظاعة.
وأخيرًا وليس آخرًا ربما يساهم في تكرار المشهد أن الألف واللام في كلمة إنسان ليست لاستغراق الجنس في منظور المطالبين بحقوق هذا الإنسان لدينا، وإنما هي لتعريف معهود، هو عند أصحاب الفكر الديني مستخلف من الله على الأرض ليعمرها، وعند غيرهم إنسان ينبغي قسره على حرق المراحل ونبذ كل افتراضاته عن الكون والحياة لكي يجاري الإنسان الغربي المتمدن الحر.
وبين لامي العهد هاتين يضيع الإنسان المتعين الباحث عن أبسط حقوقه في العيش بكرامة وحرية وأمان وتستفرد به قوى الظلام وقوى الاستبداد وتمعن فيه قتلًا وتهجيرًا وتمثيلًا.
رئيس التحرير