مناف الحمد

لا شك في أن تجديد الخطاب الديني مُهمة جليلة، وأنها مُلحّة وراهنة، وهي مُهمة لا يمكن لمن يتصدى لها أن يمتلك رفاهية اختيار الضرب صفحًا عن النصّ، وعدم الاشتغال عليه؛ لأن النص المُقدّس هو محور المنظومة الدينية، ومصدرها الأول.

ولقد تنادى المُجدّدون لوضع النصّ على محك المناهج الهيرمينوطيقة؛ من أجل إبداع رؤية جديدة لفهمه.

ولأن المقام لا يتسع لبسط القول في المناهج الهيرمينوطيقية؛ فإن مرورًا سريعًا على أبرزها سيكون الممكن الذي يُتيحه هذا المقام.

فالهيرمينوطيقا هي نظرية التأويل، ويقال إن الكلمة مأخوذة لغويًا من “هرمس”، ذلك الكائن العابر للفجوات الأنطولوجية بين الآلهة والبشر، الرسول الذي يفهم لغة الآلهة، ويبلغها للبشر، فيعبر التخوم بين المستور والظاهر، ويجتاز العتبات بين الحقائق والخيالات.

إنها -إذن- تؤدي الدور الذي كان يؤديه هرمس فتُظهر المخبوء، وتكشف المستغلق.

مع (شلاير ماخر) انتقلت الهيرمينوطيقا نقلتها النوعية الأولى، فباتت عِلمًا يُعنى بتحديد شروط الفهم، وقد وصفت هذه الهرمنيوطيقا بالرومانسية؛ لأنها تؤكد على فهم مبدع النصّ؛ فالنصّ ليس إلا تعبيرًا عن ذاتية مُبدعه.

بعد ذلك عمّق (دلتاي) هذه الرؤية عندما جعل الفهم مُتعلقًا بفهم نفسية المبدع، فما النصّ إلا موضعة لنفسية مؤلفه؛ ولهذا؛ فلا مناص -من أجل فهمه- من فهم تلك النفسية.

من فهم الدازاين (الكينونة) ننطلق لفهم الوجود، ومن هنا تستحكم حلقات الصلة بين هرمنيوطيقا (هايدجر)، وفلسفته للوجود.

إن الفهم لدى هايدجر ليس موسّطًا بالمفاهيم، وإنما يتشكل من مواجهة الشيء كما يبدو لنا، أما النصُّ فهو ليس تعبيرًا عن نفسية المؤلف، ولا تموضعًا لنفسيته، إنه تجلّ للوجود، وليس تجليًا لذات المبدع، وإنما هو انفعال المبدع بالوجود، كما أن فهمه يكون بإنصات المتلقي من دون مبادرة فاعلة تتجاوز هذا الإنصات.

مع (غا دامر) تنقطع الصلة مع المؤلف، ويصبح النصّ ذا وجود موضوعي مستقل، يستطيع المؤوّل أن يدخل معه في علاقة جدلية، مُتزودًا بأفق الحاضر الذي يُعدّ شريكًا مع تجربة النص، أو أفق الماضي في إنتاج المعنى.

ولكنّ قصدية المؤلف، ومعنى النص استعيدا على يد (هيرش) الذي جعل مقصد المؤلف رائزًا تقاس به صحة أي تفسير.

لقد أصبحت الهرمنيوطيقا مع هيرش نظرية نستطيع أن نقول بواسطتها: هذا ما كان يعنيه المؤلف وليس ذاك. أما مع (ريكور) فلم يعد ممكنًا الوصول إلى قصد المؤلف قط.

هرمنيوطيقا ريكور تحاول أن تكشف البنى الأنطولوجية للمعنى، وتقدم تأويلًا لـ الوجود في العالم، هذا الوجود الذي ينفتح أمام النص بين الأخير، وبين مؤوله.

وقد أدت هرمنيوطيقا ريكور إلى الإبقاء على التوتر بين السيادة المُطلقة للقارئ، والسيادة المُطلقة للنص.

تجدر الإشارة إلى أن لاهوت التحرر الذي يريد البعض محاكاته في الواقع الإسلامي كان مُشتقًا من الهيرمينوطيقا الارتيابية لريكور،

وخصوصا مع (جوان سيجندو)؛ فالتحرر هو ممارسة الارتياب الأيديولوجي؛ للكشف عن البنى الأيديولوجية اللاشعورية التي تدعم الطغيان، وتخدم مصالح أقلية مُتسلطة مُتمتعة بكل الامتيازات، ولا ضير في محاولة محاكاة غايات لاهوت التحرّر، ولكن من الضروري التنبه إلى أصوله المعرفية التي لا ينفك عنها، لأن في التنبه إليها حذرًا واجبًا مما يمكن أن تؤدي إليه.

الذين تصدوا لصنع قراءات تأويلية بالاستناد إلى الهرمنيوطيقا لم يستثمروا إلا الهرمنيوطيقا الفلسفية التي يمثلها غا دامر، وهيدغر، وريكور بشكل أساسي، وهي هرمنيوطيقا تنطلق من مُسلّمة عدم وجود معنى للنص، وعدم وجود قصدية لمؤلفه؛ ولكي يكون استثمارهم لهذا النوع من الهيرمينوطيقا دون غيره مشروعًا اعتمدوا على أن النص لغة، وهي الدال الأساسي في المنظومة الثقافية؛ الأمر الذي يفرض على النص حتمية التحول المستمر؛ لارتباطه باللغة، وارتباط الأخيرة بالثقافة التي هي منتوج نسبي سيّال، لا يثبت على حال.

يقول نصر حامد أبو زيد:

“النص منذ لحظة نزوله الأولى-أي مع قراءة النبي له لحظة الوحي- تحول من كونه نصًا إلهيًا وصار فهمًا (نصًا إنسانيًا) لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل”

إن الأفق الحاضر للمُؤول هو الذي يصنع المعنى -بحسب أبي زيد- وليس ما ثبّته المفسرون في الماضي، وهو تحيز للمؤول قريب من هيرمينوطيقية غا دامر إلى حدّ التطابق.

يحاول أبو زيد أن يُشرعن منهاجه عن طريق عدّ الكلام الإلهي فعلًا للإله، وليس صفة قديمة من صفاته، وهو ما يلزم منه كونه ظاهرة تاريخية، وهو حسم لمسألة جدلية لا يحق له حسمها.

النص في النهاية -لدى أبي زيد، ونظرائه- قابل لإعادة البناء، والتشكيل بحسب التباين الثقافي، والأفق المعرفي لمؤوّله.

لا اعتراض (من حيث المبدأ) على المحاولات الجريئة لأبي زيد، وغيره، ولكن لماذا يقتصر هو وغيره على هرمنيوطيقا فلسفية تقتل المؤلف، وتجعل الوصول إلى غايته دونه خرط القتاد.

إن النصّ الديني لا يُمكن له أن يكون “ما هو” من دون وجود نقاط مرجعية ثابتة تكون معيارًا لفهمه، وتفسيره، وهو يستحيل شيئًا آخر إذا انفتح على نسبية لا نهائية، لا يمكن القبض عبرها على معانٍ نهائية.

إنه الاختيار الانتقائي للمنهاج انطلاقًا من الرغبة في نزع صفة المقدس عن النص، ولقد كانت المحاولات لتكون أكثر إقناعًا لو انتهج روادها نهج الصراحة في إنكار المطلق الذي لا بد أن يصطبغ النص الديني به، بدل الانطلاق من أرضية المُطلق لمحاربته كما أشار إلى ما يشبه ذلك (علي حرب) في نقده لمحاولات أبي زيد.

ومن هنا أيضًا، وبسبب آلية الإدراك الانتقائي من جانب المتلقي، تجد التصفيق والتهليل لهذه المحاولات من جانب أنصار محاولات أبي زيد؛ بتحريض من الرغبة نفسها في نزع مُطلق النص، وفكّ ارتباطه بالسماء.

لقد انبثقت المذاهب المُغالية في التراث الإسلامي من فرض بطانة للنص لا يُطيق احتمالها، ولا يتسع لها، وقد بدأ هذا مع محاولة تعقيل المضمون النقلي، بجعل مضمونه فلسفيًا مُستمدًا من خارجه، وهو فهم مسبّق للنص يجور عليه، ويستنطقه بما لا يقول.

ولقد صار ملء السمع والبصر ما يمكن أن يؤدي إليه الفهم الباطني للنص من نتائج على المستويات كلها، وما يمثله من حالة نكوص إلى ماض مشحون بالتوتر والحقد، كما صار جليًا ما يؤدي إليه هذا الفرض للفهم المسبق (عن طريق نسج بطانة له من أفق غريب عنه) من دوغمائية لا تتورع عن أيّ فعل مهما كان بشعًا؛ في سبيل ترسيخ فهمها الجامد، الذي انتهى (للمفارقة) إلى جمود بعد أن انطلق من انتهاك مُفرط بلا ضوابط لحرفيته.

كما صار ملء السمع والبصر ما يسبّبه إغلاق باب التأويل، والاقتصار على حرفية النص من عنف رمزي، يُحيل النسبي مُطلقًا، ويحرم النصّ قدرته على مواكبة الواقع المتغير.

يُمكن أن نُجدّد الخطاب باتخاذ منهاج تأويلي لا يمسخ النص، ولا يُبدل خصائصه، وبما يتوافق مع خصيصته الرئيسة المُتمثّلة في غايته التي لا بد أنها موجودة، والتي يمكن الوصول إليها عن طريق استنباط قصد واضعه، (وثمة أدوات لهذا الاستنباط)، وإلا تحول النصّ إلى لغو وعبث، لا إلى نصّ يُنير طريق الخير، والحق، والخلاص للناس كما يقول.