لا أستطيع أن أمنع شعورًا دافقًا بالحنين عندما أدخل مسجدًا صغيرًا في حيّ قديم في إسطنبول، حيث عبق الماضي الذي لمّ شملنا فيه كيان جامع، وروحانيات الصوفية لا تزال تسري في المكان، فتملؤه سكينة وجلالًا.

نستطيع أن نتفّهم ما يشعر به الإسلاميون من تعاطف بالغ مع تركيا أر دوغان؛ انطلاقًا من القاسم المشترك ذاك، ولكنّ ما يستعصي على الفهم هو ارتدادهم في مؤتمرهم الأخير عن مكتسبات الإصلاحية الإسلامية، ونكوصهم عمّا ملؤوا به أدبياتهم من شغف بالمضامين الحديثة للدولة وديمقراطيتها، والوصول بهذا التوق إلى نهاياته، مع تأطيره بمرجعية إسلامية تحدّدها المقاصد لا حرفية النصوص المقدسة.

ما يفاجئك في المؤتمر الأخير، تلك البيعة التي عقدت لأردو غان من دون علمه وإرادته؛ ليكون سلطانًا على المسلمين كلّهم، وتكرار مصطلح الأمة تكرارًا يبعث على السأم؛ الأمر الذي يؤكد أن قلق العبارة الذي عانته خطابات الإصلاحية الإسلامية منذ بداياتها؛ بسبب عالمية التشريع ومحدودية نطاق الدولة لا زال قلقًا مقيمًا في خطاب الإسلاميين المعاصرين.

لا زالت الأمة هي الغاية القصوى، التي تستثمر الدولة لتحقيق وحدتها في غياب كامل للفكر التاريخي كنا قد عهدناه لدى جل الإسلاميين ولم يدهشنا، لولا ارتباطه بردّة صريحة عن كل محاولات تطوير الخطاب؛ لكي يصبح أكثر قدرة على تمثّل مكتسبات الحداثة.

كانت تيارات الصحوة التي أعقبت التيارات الإصلاحية، قد رفضت بالتغاير معها كلّ المفاهيم الغربية عن الديمقراطية والدولة المدنية ومثّلت الجذر الذي أينع تطرفًا قاعديًا وداعشيًا يشترك في مرجعيته الإسلامية مع التيارات الإصلاحية، ولكن من ذا الذي كان يتوقع أن الفروق الكبيرة بين الخطابين، بالرغم من وحدة المرجعية يمكن أن تنكشف على متخيّل واحد فحواه: خليفة أو سلطان يكون ولي أمر الأمة التي يجمعها رابط العقيدة فحسب.

في الوقت الذي أعلن فيه الجولاني فكّ ارتباطه عن تنظيم القاعدة، -في تكتيك تأخر كثيرًا-، أعاد من عوّل عليهم مشروع النهضة ارتباطهم بالفكر الصحويّ عن طريق تكريس مفهوم الأمة العابرة للتراب الوطني، والتي تستخدم الدولة استخدامًا أداتيًا، للوصول إلى الغاية الكبرى وهي سيادة المسلمين على العالم بقيادة تركيا وسطان المسلمين رجب طيب أر دوغان.

لم ينفع الجولاني ارتداده عن تنظيمه الأم؛ لأنه ارتداد صوري، وأضرّ ارتداد الإسلاميين في مؤتمر ” شكرًا تركيا” كثيرًا بقضية الشعوب العربية والإسلامية؛ لأنه أرسل للعالم رسالة تقول إن البنية العميقة بين الجولاني وبين من اشتغلوا طويلًا على أسلمة الحداثة هي بنية واحدة.

عندما خرج مونتسكيو بنظرية فصل السلطات، كان أحد الأمثلة على الاستبداد الفظيع الذي ينتج عن عدم فصلها، هو استبداد سلاطين الدولة العثمانية، وهو ما يغفله الإسلاميون جهلًا أو تجاهلًا، وهم يرفعون آيات التمجيد للخلافة الغابرة.

وعندما يتذكر المؤرخون سردية تاريخية تفسّر ولا تبرر الحقد الذي يملأ قلوب بعض الشعوب تجاه الأتراك، يشيرون إلى عملية سلخ الأطفال الذين كان يؤتى بهم سبايا من بلاد البلقان عن دينهم، وأوطانهم، وكلّ جذر لهم؛ لكي يصبحوا جنودًا في الجيش الانكشاري الذي لا يعرف جنوده إلا الفرس والسلطان والسيف.

كنا قد تفهمنا غياب الحلول الاجتماعية والاقتصادية في الخطاب الإصلاحي في بداياته، وتأكيده على الحلّ السياسي المتمثّل في النظام السياسي الذي يقيّده الدستور، بعدّ ذلك الغياب نتيجة لظروف ضاغطة لا بد أن يحلّ محله حضور لهذه الحلول بمجرّد زوال هذه الظروف.

ولما استمرّ غياب هذه الحلول لظروف متداخلة، ظلّ ينظر إلى الفكر الإصلاحي على أنه حالة متقدمة على الخطاب الصحويّ الذي تعدّ السلفية الجهادية المتطرفة إحدى أبرز ممثّليه.

ولكن أن يتحدث أحد الأرقام الصعبة في الفكر الإصلاحي في مؤتمر في تركيا بخطاب، لا يمكن أن يكون له مساس رحم بمحاولاته عبر عقود لتأصيل المفاهيم الحداثوية في التراث الإسلامي، وبأسلوب خطابيّ تعبوي كفيل باستعداء العالم، فهنا يصبح فكّ ارتباط الجولاني بالقاعدة حصافة سياسية وتطورًا فكريًا ترفع لهما القبعة.

رئيس التحرير