قبل أسبوع اعتُقل الطبيب علاء موسى في ولاية هيسن في ألمانيا، على خلفية الاتهامات الموجهة له بتعذيب المعتقلين الذين كانوا يُجلبون إلى المستشفى العسكري في حمص حيث كان يعمل قبل مغادرته سوريا منتصف عام 2015. بحسب المعلومات، مغادرة الطبيب سوريا لا تعكس تغيراً في موقفه السياسي، فهو في بلد اللجوء بقي محافظاً على موالاته للأسد، وإذا كان لنا أن نتكهن حول سبب مغادرته سوريا آنذاك فربما هو الضعف الذي وصل إليه الأسد ودفعه إلى التصريح به علناً مستجلباً التدخل الروسي اللاحق. حينئذ كان من السهل على علاء وأمثاله الحصول على اللجوء في دول أوروبية بزعم الهروب من خطر المتطرفين المحدق، وهناك الآلاف من أمثاله الذين حصلوا على حماية مؤقتة أو دائمة تحت هذا الزعم محافظين على ولائهم العميق للأسد، أو على الشعرة التي تربطهم به وتتيح لهم العودة لاحقاً.
أول وأهم ما تسرب من إفادة علاء موسى أمام القضاء الألماني قوله: أنا مسيحي وهم جهاديون. ما يضمر اعترافاً بالأفعال المنسوبة إليه، ومنها سكب كحول على الأعضاء التناسلية لمعتقل وإضرام النار فيها، وضرب معتقل آخر بالعصا على رأسه والتسبب بموته. صدور تلك الأفعال عن طبيب لا جلاد ينبغي ألا يثير حساسيتنا لأن المفارقة آتية من مسبقاتنا الثقافية لا غير، فالسفّاح السوري الأكبر طبيب أيضاً، وتراث النازية مليء بأطباء كانوا جزءاً فاعلاً من ماكينة الإعدام والمحارق واستخدام المعتقلين كفئران تجارب على الأسلحة الكيماوية والبيولوجية. التجربة الأسدية بدورها لا تخلو من سوابق مشابهة للنازية، أي من أطباء كانوا يشرفون على عمليات تعذيب أو قتل يشاركون فيها قبل الثورة، لكن التركيز على الجلادين “الرسميين” ساهم في إبعادهم عن دائرة الضوء.
أنا مسيحي وهم جهاديون. ينبغي ألا يخدعنا ضمير المتكلم في العبارة، فهو يضمر القول: نحن مسيحيون وهم جهاديون. الأنا هنا تنطق كممثل للجماعة لا باسم فرد واحد، وصاحبها موقن من انتمائه إلى جماعة مماثلة له إلى حد التطابق، مثلما الجماعة الأخرى تضم متماثلين ومتطابقين ممن يصفهم بالجهاديين. قتل أولئك “الجهاديين” وبأبشع الطرق يصبح شأناً ثانوياً بناء على هذه المقدمة، فالاختلاف بين الجماعتين يكفي لتبرير الفظائع، حتى من دون إظهار ماهية الاختلاف، فهو وفق هذه الجملة التقريرية لا يحتاج كشفاً وتبريراً. إنه قائم كبديهية، مثلما العنف المترتب عليه بديهي، أو وظيفي لا يدخل في حقل الإجرام.
أمثال علاء موسى ليس لديهم إحساس بالذنب، وقد يكونون أزواجاً وآباء جيدين، قد تستهويهم الموسيقا والطبيعة وبعض أنواع الكتب. يا للهول! هم بشر مثلنا، وليسوا وحوشاً آدمية كما يطيب لبعض منا تخيلهم. هم أيضاً لم يرتكبوا الفظائع مُكرَهين، أي لا يجوز وصفهم بأنهم جزء صغير من آلة الإجرام العملاقة، ويؤدون دورهم بالمعنى التقني فحسب، إذ قد ينطوي هذا الفهم على تغييب مداركهم وعلى إحساس دفين بالذنب قد يتخللهم.
بالنسبة للطبيب علاء، هو لم يعذّب ويقتل بشراً، لقد فعل ذلك بالجهاديين. مناقشة أفعاله بالتدليل على أنهم لم يكونوا جهاديين فيها تسخيف للأمر برمته، وهذا نقاش خاضه بعض أنصار الثورة مطولاً للتمييز بين متظاهرين سلميين ديموقراطيين وجهاديين لهم مشروعهم الخاص. القناعة الأساسية لدى علاء وما يمثله أن هؤلاء الضحايا ليسوا بشراً، الأوصاف التي تُطلق عليهم هي لتعزيز القناعة بذلك، وعطفاً عليها لا ينطبق عليهم مفهوم الجريمة، فنحن لا نجرّم مثلاً من يذبح خروفاً أو يلتهمه. ربما علينا تدارك استخدام مثال الخروف، إذ من المستهجن عموماً تعذيب الحيوانات الأليفة، والأقرب إلى الواقع أن نفي صفة البشرية عن الضحايا ملازم للانتقاص التام من شبهة التعاطف، ما يستلزم النظر إليهم بوصفهم وحوشاً.
ربما تشجعَ علاء على النطق بقناعته ظناً منه أنه يقولها في غرب مسيحي يشاطره فيها، وهو بذلك ينطق عن قناعة بأنه امتداد لعشيرة الغرب المتحضر وسط أولئك الهمج. لكن ألمانيا تحديداً بلد مثقل بماضيه النازي، الماضي الذي أشبع دراسة من أجل عدم النكوص إليه، وهنا يجدر بمحاكمته في ألمانيا استغلال ذلك الإرث الثقافي وعدم الاقتصار على الجانب القانوني. التبرير الذي يقدّمه علاء لجرائمه هو في حد ذاته جريمة أخرى ينبغي عدم إغفالها، وهي جريمة وثيقة القرابة بما دأب عليه هتلر الذي كان يصف المُراد إبادتهم بـ”ما دون البشر”. بمعنى أن العنف الرمزي لا يؤسس فقط للعنف المادي، هو بالأحرى يُفقد مرتكبه مجرد الإحساس بأنه يمارس العنف، والتأسيس للعنف الرمزي هو الجريمة “الناعمة” الأولى التي يهون بعدها ارتكاب الفظائع.
من المؤسف أن الكثير من التحليلات كان قاصراً عن فهم الدعاية الأسدية منذ مستهل الثورة، الدعاية التي ركزت على وصف الثائرين بالإرهابيين أو الجهاديين، ونُظر إليها كمحاولة للتقرب من الغرب أو تخويف “الأقليات”. من دون استبعاد تلك المكاسب المحتملة، كان أهم ما في الدعاية الأسدية هو التأسيس للعنف المعمم، مع بدء استخدامه من قبل قوات الأسد وشبيحته. وظيفة الدعاية الأساسية كانت نفي أية حقوق لأولئك الثائرين، بل نفي صفة البشر عنهم، بوصفهم “كائنات” إرهابية أو جهادية من المباح التخلص منها بأية طريقة كانت. خطاب الإبادة والاستباحة المعمم لم يكن لينجح إلا على أرضية من الانقطاع عن الآخر ككائن بشري، والفظائع التي تلت لم تكن لتمر بسهولة لولا تلك القناعة المعممة لدى الموالين بأن أولئك الضحايا هم “ما دون البشر” بتعبير هتلر.
المسألة لم تكن منذ ذلك الوقت صراع سرديتين، سردية النظام وسردية الثورة، كانت على نحو أدق استخدام النظام العنف الرمزي مع تمهيد الأرض له كي يُمارس فعلياً، وكما رأينا سيجد ذاك الخطاب تتويجه بحديث بشار الأسد عن كسب مجتمع متجانس بعد القضاء على “الإرهابيين”. لا غرابة في أن سورياً اسمه محمد أحمد عبدالوهاب خاطب بشار الأسد في مستهل الثورة قائلاً: أنا إنسان ماني حيوان، وهالناس كلها متلي. فالرجل ببساطة وعفوية كان يستبطن جوهر الماكينة الأسدية.
واحد من العوامل المساعدة على انتشار خطاب العنف عدم الانتباه والاتفاق عليه بين من ينسبون أنفسهم إلى المعارضة، ثمة فئة مثلاً كانت “حريصة” على تجاهله بزعم أن الخوض فيه وفي الانقسامات الأهلية سيعزز الأخيرة، بل هناك فئة أنكرت ذلك الخطاب الخبيث مقابل تصويبها على خطاب أكثر فجاجة وأقل مكراً راح يظهر في أوساط الناقمين على الأسد. هكذا لم يأخذ تشريح الاستثمار الأسدي في الحرب الأهلية مكانته، فاُنكر وجودها من قبل كثر، ونُظر إليها من قبل آخرين كقدر لا فكاك منه من دون التمييز بين الاختلافات المذهبية أو الإثنية وخطابات العنف التي قد ترافقها أحياناً، بشرط عدم إقامة التلازم بين الاختلاف والعنف.
في أرض الإفلات المادي من العقاب، سيكون من السهل انفلات العنف الرمزي على أقصى مدى. “أنا مسيحي وهم جهاديون” واحدة من العبارات التي وجدت طريقها إلى الممارسة الفعلية بإحراق أعضاء تناسلية والضرب حتى الموت، وصف “الإرهابيين” الذي أطلق على كل من آمن بالثورة أودى بنصف السوريين إبادة وتدميراً وتهجيراً. لكننا لا نعدم أوصافاً أخرى من الأرومة التي تنطوي على التحقير ونفي البشرية عن الآخر ولو مواربة، وصف العرب بشاربي بول البعير، أو وصف الأكراد بالبويجية، وحتى عدم التمييز بين أن يكون الأسد طائفياً وأن يستثمر في الطائفية ووصفه تالياً بالنظام النصيري؛ من المرجح أن يكون أصحاب هذه القناعات قد أتموا استعدادهم لفعل ما فعله علاء موسى، أو التصفيق له على الأقل، في حين لا يكفّ مثقفون عن ممارسة عنف رمزي آخر بمحاولة إفهامنا أن الإسلام هو المنبع الحصري للعنف لذا نحن محكومون به. في بيئة لا تجرم العنف الرمزي، لا شيء يمنع قاتلاً من التصريح بإيمان حقيقي: أنا أحب الملوخية وهو لا يحبها لذا تخلصت منه، هو بالتأكيد ليس إنساناً، فكما تعلمون لا وجود لإنسان لا يحب الملوخية.