مع انسداد أفق المفاوضات السياسية، وتفاقم معاناة السوريين من ملفات إنسانية لم تعد معالجتها تحتمل التأجيل، ومع ازدياد تغول أطراف خارجية في الصراع الدامي وتنامي أخطار أوهام النظام بتحقيق انتصار عسكري ربطاً باتساع مناطق خفض التصعيد والنجاح النسبي في دحر تنظيم «داعش»، تبدو بلادنا المنكوبة والمهددة بتفاقم الاضطراب والعنف، أمام فرصة منح المجتمع الدولي مهمة الأخذ بيدها عبر قرار نافذ يضعها تحت وصاية دولية أو إشراف أممي يحاصر منطق القوة والغلبة ويعيد للمجتمع دوره في سياق عملية التغيير السياسي وإعادة الإعمار المرتقبة.
والفرصة ليست قفزة في الهواء ولا تنطلق من الرغبات والأمنيات بل يحكمها توافق للمصالح يرجح أن يحض أهم القوى العالمية، كروسيا والولايات المتحدة وأوروبا، على توسل المظلة الأممية لمحاصرة بؤرة التوتر السورية وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.
وإذا كان السؤال الأهم: ما هي مصلحة روسيا في الإشراف الدولي على بلد هي فيه الطرف الأقوى والمقرر، ولماذا قد تتنازل وتشارك الغرب هذه الغنيمة؟ فإن الإجابة لا تنطلق من معطيات اللحظة الراهنة فقط وإنما من حسابات بعيدة المدى يفترض أن تأخذها موسكو في الاعتبار، حيث يمنحها هذا الخيار أولاً، غطاءً أممياً هي في حاجة إليه لتحصين موقعها ودورها، بخاصة عندما تغدو الرقابة الدولية إطاراً داعماً لخطتها في تعميم مناطق خفض التصعيد، وثانياً، لأنه يعزز حظوظ استقرار الوضع السوري، ويساعدها في تخفيف الاحتقان الشعبي وردود الأفعال تجاه ما خلفته حربها على البلاد، بما في ذلك تجنب التفرد في تقرير مستقبل لسورية قد يغرقها وحيدة في مستنقع يماثل تجربتها الأفغانية، وثالثاً، لأن قيادة الكرملين يمكنها الاستناد إلى تلك الشرعية الدولية للجم شهية التوسع الإيرانية، ولمحاصرة النفوذ التركي ومتطلباته، بما في ذلك طمأنة إسرائيل واللوبي اليهودي الضاغط عليها، ورابعاً، وهو الأهم، لأن مثل هذا الإشراف يدشن مناخاً سياسياً جديداً قد يرضي الداعمين العرب والغربيين ويشجعهم على المشاركة في إعادة الإعمار، ولنقل يغازل اشتراطهم تنفيذ الانتقال السياسي قبل بدء عملية إعمار تتخطى تكلفتها بالأرقام الأولية، القدرة المحدودة لروسيا وحلفائها، ولا يبدل الأمر تنطح الصين ودول البريكس لهذه المهمة.
والقصد أن قرار إعادة الإعمار شيء وتنفيذه شيء آخر، ويتوهم من يعتقد ببدء التنفيذ في ظل الشروط القائمة، وبالأهداف السياسية التي يطرحها النظام وحلفاؤه، فلا يمكن أن تنجز عملية إعادة إعمار بالمعنى الحقيقي، إن غابت عنها الدول الكبرى ومؤسساتها التي تمتلك الأموال والتقنية والخبرات، وأهمها دول ذات وزن حاسم، مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسة ودول الخليج العربي. وهؤلاء بداهة، لن يتعاطوا مع عملية إعادة إعمار تصب الحب في طاحونة النظام السوري وحلفائه ومشاريعهم السياسية المعروفة والمرفوضة.
وفي المقابل، يشكل الإشراف الأممي حافزاً لتأمين مصالح الدول الغربية ما دام يفتح الباب أولاً، لدخولها بصورة شرعية ومستدامة في الوضع السوري وللمشاركة الجدية في تقرير مصيره ومستقبله العمراني والسياسي، وثانياً، لأنه يمكنها من محاصرة نفوذ الدول الإقليمية ومشاريعها المغرضة في سورية، وتحديداً إيران وتركيا، عداكم عن أنه يشكل بديلاً مقبولاً عند إسرائيل عن تحالف الدول الثلاث الضامنة، روسيا وإيران وتركيا، وثالثاً، لأنه يخفف إلى حد كبير ضغط اللاجئين السوريين، حيث لا يمكن أن يُطمئن هؤلاء الهاربين من أتون العنف والانتقام ويشجعهم على العودة لديارهم، سوى وجود طرف ثالث يضمن لهم الأمن والحماية ويعيد التأسيس للبنيتين التحتية والخدمية، بما في ذلك عودة آلاف الكوادر العلمية والمهنية المعنية بإعادة إعمار وطنها، والتي لا بد أن تفرض تأثيرها على الحياة المدنية والسياسية وقد باتت أكثر إيماناً بالقيم الغربية، ورابعاً، لأنه يعزز توحيد الجهود الدولية لدحر الإرهاب الإسلاموي ولتمكين مناهضيه من لعب دور ثقافي وسياسي ضده، وأيضاً لتخفيف المظالم والأسباب التي تساهم في توليده وتنميته، وخامساً، لأنه يساهم في تغيير الصورة السلبية التي ترسخت بين السوريين والعرب عن مجتمع غربي لم يحرك ساكناً لوقف ما حصل من قتل ودمار، ولم يتدخل لحماية أرواح المدنيين.
اعتمدت الأمم المتحدة مبدأ الإشراف الدولي كوسيلة لمعالجة مخلفات الحرب العالمية الثانية، ولإنقاذ مجتمعات عجزت عن التخلص من صراعاتها الدموية بسبب تهالك بناها الذاتية وتشابك التدخلات الخارجية في شؤونها، وهو ما وصل إليه الوضع السوري، ما يعني، أن الإشراف الدولي، بات طريقاً ممكنة لتخليص السوريين من محنتهم، ربطاً بتحجيم دور النظام القمعي القائم، مع الحفاظ على ما تبقى من الدولة ومؤسساتها، ومنع سقوط المجتمع في أوحال الطائفية والمحاصصة والتقسيم وأتون الثأر والانتقام.
وحين تخلص الدول الكبرى إلى اعتماد الإشراف الدولي على سورية كخطة طريق لإطلاق عملية تغيير بنيوية تحيي دور المجتمع وتبعث الثقة بمكوناته المدنية في رسم مستقبل البلاد، تصبح مفاوضات جنيف قابلة للحياة، ويغدو بالإمكان إنجاح النظام السياسي الانتقالي، ووضع حد لمراكز سلطوية فاسدة أفرزتها الحرب، بما في ذلك تفكيك التنظيمات المتطرفة واستيعاب المعارضة المسلحة في جيش وطني يعاد تشكيله، في سياق إعادة هيكلة مؤسسات الدولة ودورها العمومي، يحدوها انتشار لجان أممية للرقابة الأمنية والسياسية تستعين بمختلف الكوادر والخبرات السورية.
لن يكون تمرير هذا الخيار سهلاً وستقاومه أطراف كثيرة وتعرقله، أولها سلطة تأبى تقديم التنازلات وتستمر في التهرب من الحلول السياسية، لكن صعوبة، إن لم نقل استحالة، استمرارها في الحكم بعد ما ارتكبته، ثم حاجتها الماسة للمساعدات المادية والتقنية الغربية والعربية لمعالجة الخراب العمراني والاقتصادي، والأهم اضطرارها للخضوع للإرادة الروسية إن تبنت الإشراف الأممي، هي عوامل ستحاصر مجتمعة رفض السلطة السورية وتجبرها على الالتزام بما يقرره المجتمع الدولي، وربما لن يختلف الأمر بالنسبة لإيران التي تستنزف في العراق واليمن، وقد تكره على المساكنة تحسباً من اندفاعة للبيت الأبيض تضع تهديداته بالحد من نفوذها موضع التنفيذ، وكذلك حال تركيا التي لن يهمها في نهاية المطاف سوى احتواء الوضع الكردي وضبط انفلاته.
واستدراكاً، يغدو خيار الإشراف الأممي اليوم، ضرورة وفرصة في آن، ضرورة لإنقاذ المجتمع السوري من مصائر مأسوية تهدد وحدته ومستقبله، بما في ذلك وقف الاستهتار الدولي المخزي بالأرواح التي تزهق وبمعاناة بشر فاقت كل الحدود، وفرصة تخلقها حوافز موضوعية لتشابك المصالح العالمية وتقاطعها، يعزز حظوظها أن تكون أوروبا، بما تملكه من وزن ومصالح لدى جيرانها العرب، هي السباقة لتبني هذا الخيار والتشجيع عليه.

* كاتب سوري