ابتعدت الأحداث المتوالية في سورية عن أصل انطلاقتها، والطموح الشعبي الذي حملته الحناجر إلى الساحات تولى النظام القمعي المخابراتي خنقه بالنار. هذا هو الأصل، قتل سياسي نظامي رسمي متمادٍ للسياسة في سورية، وقتل مادي معنوي للشعب الذي خرج مطالباً بإحياء السياسة، وبمنع تجديد قتلها من قبل النظام الرابض على صدر مستقبل سورية، باسم شعارات قومية أفرغها من مضمونها النظام قبل غيره، وباسم حرية وعدالة اجتماعية واشتراكية، لم يعرف منها السوريون غير كمِّ الأفواه وغير التفاوت الاجتماعي الصارخ والاستئثار والفساد وسوء التوزيع.

ردّ الحدث السوري إلى أصله ضروري كلما كان لازماً استعادة الحدث، هذا لأن الذين تدخلوا لاحقاً في قراءة تداعيات وتطورات الصخب السوري، توزعوا بين مؤيد لمعارضة لم تعد هي المعارضة الشعبية الأولى، وبين نظام أضاف إلى نسخته الاستبدادية المعروفة، نسخاً من أساليب وممارسات ووسائل التصدي للتحركات الشعبية، كان بعضها معروفاً ومتوقعاً، لكن أكثرها جاء «مفاجئاً» حتى بمقاييس طبائع أهل الاستبداد.

وعند الحديث عن الأصل في المأساة السورية، تجدر الملاحظة أن هذه المأساة قد تركت «سوريتها» بعد زمنها الابتدائي بقليل، أي أنها كانت داخلية الطابع، ولهجتها العربية والمحلية كانت واضحة، منذ الهتاف الأول وبعده بما يتجاوز العام بقليل، لكن ذلك الطابع أطيح به، من جانب النظام عندما دفع إلى عسكرة التحرك السلمي، وعندما سعى إلى تقديم ذاته كمدافع أول عن العالم ضد «الإرهاب». كانت العسكرة نقطة الفصل بين الشعب السوري وبين استقلالية تحركه، مثلما كانت نقطة الانفصال بين النظام وبين استقلاله في إدارة شؤون حكمه بلده. المعارضة صارت معارضات تشابهت، وتتشابه اليوم، في أنها تغرف من ماضٍ منقطع عن المستقبل الذي سعى الحراك السوري الأول إليه، وتتماثل أيضاً في اعتماد ردود مجتمعيه متخلفة عما كان للسوريين، حتى في ظل نظامهم، ولا يعرف أي فصيل من فصائل المعارضات تلك، «السورية المستقلة»، بل إن كل الفصائل تتشارك التبعية للممولين وللداعمين وللمتدخلين، سواء كانوا دولاً وجهات رسمية، أو كانوا تنظيمات ومؤسسات وهيئات أهلية، تخاطب السوريين من خلف الحدود، وتحرك ما صار لهم من معارضات وفق رؤاها هي، وبما يتناسب وتطلعاتها السياسية.

في سياق الانفصال والانقطاع، سلك النظام السوري مسلك تبديد «سوريته»، عندما قدَّم مسألة تثبيت الصيغة النظامية الممسكة بالبلد، على مسائل سلامة كل البلد. كان من شأن ذلك أن يؤسس للتدخل الخارجي، الذي لا يخفف من وطأة خطورته القول إن التدخل يتم بطلب رسمي، وإنه مرعي بمعاهدات تحدد واجبات النظام وواجبات حلفائه. لقد بات معروفاً وواضحاً ومما لا يقبل الالتباس، واقع التبعية التي صار النظام إليه، ويشاهد الجميع ويسمع ويقرأ، المناورات السياسية والمؤتمرات المتعددة الأطراف، والبيانات والتعهدات التي تصاغ بحضور ممثلي النظام، لكنها لا تتم وفق مشيئته، وهي خارج إرادته، ولعل الصوت الرسمي السوري هو الصوت غير «المسموع» إلا عند الضرورة، ووفقاً لما تتطلبه سياسات الحلفاء الذين باتوا في موقع الأوصياء على النظام، والمتنازعين على قسمة الحصص مما سيبقى من تركته.

ما يشهده الوضع السوري حالياً، هو وضع المتصرفية الذي سبق أن عرفه جبل لبنان بعد حربه الأهلية المدمرة عام 1860. روسيا كانت من رعاة البروتوكول الذي اعتمد في ذلك الزمان، وهي الراعي الأول للمتصرفية اليوم، وهي ترث بذلك السلطنة العثمانية الممثلة حالياً «بتركيا» الجديدة، وأما الغائبون القدامى عن الصورة، مثل بريطانيا، فحاضرون خلف الستارة التفاوضية، والولايات المتحدة الأميركية، تقوم مقام النمسا، وألمانيا تلعب دوراً مرموقاً بديلاً من «بروسيا» التي كانت في تلك الأيام.

ومما يدعو إلى المقارنة، أن لبنانيي جبل لبنان حصلوا على ما يسمى «حكماً ذاتياً» قاده في بدايته المتصرف داوود باشا، هذا الحكم الذاتي قد يكون له اسم سورية المفيدة في النسخة السورية الراهنة، وبدلاً من المتصرف يكون للسوريين رئيس يتوافق عليه رعاة المتصرفية الجدد، روسيا والولايات المتحدة الأميركية، وتركيا وإيران، ولأولئك تعود مسائل مراعاة هواجس بعض الدول الأخرى، الأوروبية وغير الأوروبية، وهواجس إسرائيل الحاضرة بقوة لدى كل الضامنين، أما موضوع الإهمال المستمر، فهو من حصة المجموعات العربية، هذه التي تقيم في بلاد صارت مصادر للنهب، وميادين للقتل وتصفية الحسابات، الدولية والإقليمية.

متصرفية بصيغة جديدة؟ لم لا، فالتصرف بنا ما زال سمة «عصورنا» التي لم نتعلم خلالها التصرف بشؤوننا تصرفاً رشيداً. ولذلك، فإن شعار ارفعوا أيديكم عن سورية هو الشعار الراهن، أيدي النظام ورعاته، وأيدي المعارضات ومحركيها، هذا إذا أردنا أن نستعيد واقع تكون فيه اليد السورية والعربية هي اليد الطولى.