بمناسبة هذه الذكرى الجديدة للثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 1917، اودّ فيما يلي تقديم قراءة تدقيقية لـ»الوعد» تعيد الاعتبار للاطار التاريخي الذي تم فيه وتقيم الصلة بينه وبين اتفاقية سايكس- بيكو 1916. لأن الوعد بانشاء وطن قومي لليهود تحقق بعد ثلاثة عقود من الزمن، سهل في السردية السائدة عن القضية الفلسطينية، النظر الى ان غرضه الرئيسي كان وضع بريطانيا في خدمة انشاء دولة يهودية وافتراض وجود مسار تاريخي متواصل بين الوعد وتحقيقه. تضافرت ثلاثة عوامل على اعلان التعهد البريطاني باقامة دولة يهودية في فلسطين لا يجري التشديد عليها في العادة.
اولا، الاستعانة بحماية بريطانيا لليهود، والسعي لاقامة كيان لهم في فلسطين، لاقتناص الحق في الانتداب على فلسطين أسوة بفرنسا السباقة الى تقديم نفسها حامية المسيحيين والدروز والعلويين والشيعة. والقصد المشترك هو التحايل على شرعة عصبة الامم التي اطلقت الوعد بتصفية الاستعمار بناء على «حق الشعوب في تقرير مصيرها». بناء عليه، لجأت فرنسا وبريطانيا الى حماية الاقليات الدينية، وتحضير اهالي المنطقة، لنيل الاستقلال، بما هما المسوّغ الجديد لتقاسم السيطرة الاستعمارية عليها.
ولكن، حماية الاقليات ممن؟ المفارقة الفاغرة هنا هي ان الاكثرية المطلوب حماية الاقليات منها ـ اي السنّة ـ هي الطرف المهزوم في الحرب! وذلك بناء على منطق المذاهب والطوائف الذي قضى بالنظَر الى السنّة بما هم مذهب السلطنة العثمانية والى السلطنة بما هي سلطنة سنّية.
ثانيا، السيطرة على الضفة الشمالية من قناة السويس، بتحويل فلسطين الى منطقة عازلة بين منطقة النفوذ الفرنسي في سوريا وبين قناة السويس، وقد جرى انقاذها من حملة عثمانية لاحتلالها جاءت عن طريق فلسطين وباكلاف باهظة.
ثالثا، الاستعانة بمستوطنين يهود للسيطرة على الاكثرية العربية في فلسطين على غرار نمط الاستعمار الاستيطاني البريطاني في روديسيا او جنوب افريقيا. وذلك في منطقة عبّر قطاع واسع من اهلها عن رغبة عارمة في العيش في دولة واحدة مستقلة.
قضت بريطانيا وفرنسا العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر في الضغط على السلطنة لاعلان المساواة بين رعاياها واعلان دستور وإنشاء مؤسسات تمثيلية. وما إن حلّت السلطنة نظام الملل في «التنظيمات» الشهيرة (1839-1856) واعلنت المساواة السياسية والقانونية بين رعاياها، حتى إرتدّت الدولتان لفرض نفسيهما حاميتين للاقليات الدينية. إختارت بريطانيا حماية اليهود. وقد فاوض رئيس الوزراء البريطاني بالمرستون السلطان العثماني في وقت مبكر للسماح بهجرة مستوطنين يهود الى فلسطين على اعتبار أن بريطانيا حامية اليهود في السلطنة «بحكم الامر الواقع».
من اجل تثبيت الحق البريطاني في استعمار فلسطين، اقتضى الامر حرمان عرب فلسطين من الحقوق السياسية. هكذا نزعت رسالة اللورد بلفور الى البارون روثتشايلد صفة «الشعب» عن 90٪ من سكان فلسطين، لتحرمهم من «حق الشعوب في تقرير المصير» العتيد. ومنحت صفة «الشعب» الى10٪ من سكان فلسطين اليهود ـ والى من يرغب في الهجرة اليها – ومعها حق بناء دولة قومية. وسمّي عرب فلسطين بالجملة «الجماعات غير اليهودية» الذي تعهدت بريطانيا بعدم الاساءة الى «حقوقها الدينية والمدنية»، اي انها كرّست، بواسطة الإسقاط، حرمانها من الحقوق السياسية. وهي عيّنة عن اوقح ما ينتجه الفكر الاستعماري: تُعرّف اكثريةُ شعب باختلافها عن الاقلية، وتكرّس هوية بلد تبعاً للهوية الدينية للاقلية فيه: شعب يهودي/جماعات غير يهودية!
بناء عليه، فإني أستبعد ان تكون عبارة «الوطن القومي» مجرّد تورية للحديث عن دولة يهودية، كما هو شائع. فالدولة التي كانت بريطانيا تنوي انشاءها العام 1917 في فلسطين كان يتوجب ان تكون دولة بريطانية لا اختلاط لها مع اي كيان آخر.
ترافق تثبيت حق بريطانيا في انشاء دولة فلسطين في ظل الاستعمار البريطاني مع انتراع المساحة المسماة «سوريا الجنوبية» من تحت الوصاية الفرنسية. وكانت اتفاقية سايكس-بيكو قد رسمت الخط الازرق الشهير من عكا الى كركوك، ولكن تكاثرت التعديلات البريطانية على تلك القسمة. قضت على منطقة «الحماية الدولية» للاراضي المقدسة، عندما دخلت القدس قوة بقيادة الجنرال اللنبي، 1917. وكان لويد جورج قد صرّح «تستطيع بريطانيا حماية الاماكن المقدسة افضل من اي كان» واردف ان موضوع فلسطين الفرنسية «غير وارد اصلا» (بيتر مانسفيلد، تاريخ الشرق الاوسط،، 184)
كان لويد جورج يعتقد ان بريطانيا هزمت العثمانيين بمفردها ويحق لها اخذ حصة الاسد من غنائم الحرب. وعندما حان وقت اقتسام الغنائم، انتزع ما يريده من كليمنصو، في هذا الحوار المعبّر في السفارة الفرنسية بلندن عشية مؤتمر السلام في نياير 1919:
كليمنصو:حسناَ، ما الذي سوف نناقشه
لويد جورج: بلاد ما بين النهرين وفلسطين.
قل لي ماذا تريد؟
أريد الموصل
سوف تكون لك … اي شيء آخر؟
نعم. اريد القدس ايضا.
سوف تكون لك، قال كليمنصو مجددا (جايمس بار، خط في الرمال، ص 71-72)
هكذا، استكمل وعد بلفور تعديلاته على اتفاقية سايكس بيكو بانشاء كيان فلسطيني تحت الانتداب البريطاني ضم سناجق عكا ونابلس والقدس في كيان واحد. وتأكيداً على اولوية مصلحة الامبراطورية على اي شيء آخر، عدّلت بريطانيا مرتين من خريطة الدولة اليهودية كما قدمّتها الوكالة اليهودية وضمّت الى وثيقة الانتداب. الاولى حين اقتطعت شرقي نهر الاردن من فلسطيين، بالضد من مطالبة الوكالة اليهودية بشريط من عدة كيلومترات بموازاه النهر. وهي خطوة عارضها جابوتنسكي، الاب التاريخي لليمين الصهيوني، وأسس «حزب الاصلاح» العام 1927 للعمل على مراجعة هذا التعديل والسماح بالاستيطان اليهودي شرقي النهر. وكان التعديل الثاني في مفاوضات رسم الحدود الشمالية لفلسطين، التي اسفرت عن اتفاقية يوليه ـ نيوكومب العام 1923، التي تقاسمت الدولتان المستعمرتان بموجبها منطقة الجليل، وسيطرت بريطانيا على مياه نهر الاردن وترك لفرنسا السيطرة على روافده. ومعلوم ان عطفة نهر الليطاني كانت الحدود الشمالية حسب خريطة الوكالة اليهودية. من يقارن بين الوثيقتين، لا بدّ ان يلاحظ صفة اضافية لوعد بلفورهي انه كرّس التعريف الديني الاقلوي لسكان المنطقة ضاربا عرض الحائط برطانة اتفاقية سايكس-بيكو عن استعداد بريطانيا وفرنسا «الاعتراف بدول عربية مستقلة او بكونفدرالية دول عربية وحمايتها».
لم تبدأ بريطاينا في الحديث الرسمي عن دولة يهودية في فلسطين الى جانب دولة عربية الا في خضم الثورة الفلسطينية الكبرى1937 مع بيان «لجنة پيل» 1937. ولن تكتسب تلك الدولة عناصر تحقيقها الا بعد هزيمة تلك الثورة، التي تحررت لاول مرة من سياسة حرف الانظار من الاستعمار البريطاني الى الاستيطان اليهودي، عندما طرحت شعار جلاء الاستعمار عن فلسطين.
٭ كاتب وأكاديمي لبناني
القدس العربي
فواز طرابلسي