الأوامر التي صدرت إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي، والقناصة بينهم على وجه الخصوص، باستخدام الرصاص الحي ضدّ المتظاهرين الفلسطينيين عند السياج الفاصل بين أرض غزّة والاحتلال؛ لم تكن جديدة على تاريخ الكيان الصهيوني، حتى إذا صدرت اليوم عن رئيس الأركان غادي أيزنكوت أو وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان. السابقة الأبكر جاءت ــ كما يذكّرنا طارق باقوني في مقالة نشرتها «نيويورك ريفيو» مؤخراً ــ سنة 1953 من قيادة الفوج الخامس في جيش الاحتلال، صريحة لا لبس فيها: «فتح النار، دون إنذار، على كل فرد أو مجموعة لا يمكن لقواتنا أن تتعرف من بُعد على هويتهم كمواطنين إسرائيليين».
السبب الجوهري وراء هذا الخيار العنفي الدائم لا يتصل بذعر الكيان الصهيوني من تسلل عشرات، أو حتى مئات، من الفلسطينيين إلى عمق الأراضي التي يطلق عليها الاحتلال صفة «الحدود»؛ فهذا تطوّر تسهل معالجته باستخدام القوّة النارية القصوى، التي لا تتردد إسرائيل في اللجوء إليها دون حرج أو رادع. ثمة ذعر إسرائيلي، مع ذلك، مبعثه تلك اليقظة الشعبية الفلسطينية المستدامة على حقّ العودة، وعلى اكتسابه في كلّ مرّة صياغات كفاحية جديدة ومتجددة، واستقراره في الوجدان الفلسطيني كحقّ ابتدائي ثابت لا تمسه التسويات والمقايضات والمفاوضات والتسويات، ولا التباينات في قلب الجماعات السياسية الفلسطينية الكلاسيكية (منظمة التحرير، «فتح» و»حماس» والفصائل، السلطة الوطنية…).
وأمّا الأخطر، في تقدير سلطات الاحتلال، فهو تجذّر هذا الحقّ في قلب المجتمع المدني الفلسطيني، أياً كانت مضامين هذا التوصيف، وسواء خضع لتلك الاستقطابات أو نأى عنها، وتقاطع مع سياسات التمثيل الرسمية (السلطة الوطنية في الضفة، و»حماس» في القطاع) أو تناقض معها. لا تحبّ دولة الاحتلال رؤية مجتمع مدني فلسطيني يتظاهر على طول السياج، دون أن يحمل سلاحاً غير المقلاع يسهل اتهامه بـ»الإرهاب»، من جهة أولى؛ كما تكره، من جهة ثانية، أن يثبت هذا المجتمع استقلالية واضحة عن مؤسسات محمود عباس ويحيى السنوار، في آن معاً.
الأدهى، ليس في ناظر حكومة بنيامين نتنياهو الراهنة وحدها، بل عند كلّ حكومة صهيونية منذ دافيد بن غوريون؛ أن تكون انتفاضة المجتمع المدني الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، بمثابة انتفاض على أَسْر المقاومة الشعبية المدنية بين صيغة السلطة (التنسيق الأمني مع الاحتلال، وقمع حركات الاحتجاج الشعبية، وتحويل سلطة اعتبرتها اتفاقيات أوسلو مؤقتة إلى جهاز بيروقراطي وأمني فوقيّ…)؛ وصيغة «حماس»، التائهة بين الحصار الإسرائيلي، والتفرّد العقائدي، والاستئثار بالسلطة، وممارسة القمع أيضاً، وتقلّب السياسات والتحالفات…).
لهذا، ومن حيث التفسير المبدئي، اكتفى عباس بقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء، وإعلان الحداد، والتوقيع على انضمام السلطة إلى حفنة منظمات دولية؛ لكنّ أجهزته سهرت على ضبط أيّ حراك شعبي جدّي في الضفة الغربية، حيث يستوجب المنطق أن تخرج تظاهرات تضامن واسعة. ولهذا، في المقابل، رضحت «حماس» لضغوط النظام المصري وسحبت ما كانت توفّره لاعتصامات السياج من حافلات نقل ومخيمات وخدمات لوجستية؛ متكئةً، ضمناً، على «المكرمة» التي قدّمها عبد الفتاح السيسي بفتح معبر رفح طيلة شهر رمضان. ولهذا، في الإطار العربي هذه المرّة، حرصت غالبية الأنظمة العربية على ضبط الشوارع الشعبية، فلم تخرج تظاهرات التضامن إلا ما ندر؛ بل حرص معظم الرؤساء والملوك والأمراء على التغيب عن مؤتمر القمة الإسلامية حول القدس، الذي احتضنته اسطنبول.
وهكذا، لدولة الاحتلال أسباب وجودية، عميقة وضاربة الجذور، في مواجهة إحياء حقّ العودة بأقصى عنف وحشي؛ ولدول أخرى، ومنظمات وحركات، أسبابها الوجيهة في الخوف من عواقب تجذّر هذه الحركة الإحيائية حول حقّ جوهري؛ خاصة حين يشحذ المجتمع المدني الفلسطيني بطاقة وجدانية وكفاحية خاصة، إضافية وخلاقة. ولعله، استطراداً، يصيب بالعدوى مجتمعات مدنية أخرى، في طول العالم العربي وعرضه!