صبحي حديدي
الواقعيون، في صفوف محللي معركة تحرير الموصل من قبضة «داعش»، لا يختلفون مع نظرائهم المثاليين حول ابتداء المنازلة، أو حول ميادينها الأضيق أو محيطها الأعرض؛ إذْ أنّ الخلاف يدور حول سؤال الـ«ما بعد»: متى تضع المعركة (أم الحرب؟) أوزارها؟ أين، على وجه الدقة أو حتى الترجيح النسبي؟ وكيف، في ما يخصّ المآلات على الأرض، خلال العمليات وما بعدها، لدى الأطراف المناهضة لتنظيم «الدولة الإسلامية»، وكذلك لجهة مستقبل التنظيم على الأراضي العراقية، ومصير الخلافة هنا، وسائر أرجاء انتشار وسيطرة التنظيم؟
وحول الزمن، يرى الواقعيون ـ ويشاطرهم الرأي ضباط عراقيون ميدانيون، لا يخفون قناعاتهم بعد اشتراط إخفاء اسمائهم ـ أنّ القتال قد يمتدّ على ستة أشهر، في الحدود الدنيا وليس القصوى. صحيح أنّ «داعش» تسيطر اليوم على 10٪ من الأراضي العراقية، مقابل سيطرتها على 40٪ قبل سنتين، ساعة سقوط الموصل وانهيار الجيش العراقي، في حزيران (يونيو) 2014. ولكن هذه الـ10٪ مساحة محفوفة بالمخاطر والعوائق والمصاعب، التي يمكن أن تبدأ من حقول الألغام، وتمرّ باحتمال تفجير سدّ الموصل وإشعال عشرات الآبار النفطية؛ ولا تنتهي عند لجوء «داعش» إلى احتجاز مئات الآلاف من المدنيين سكّان الموصل (قرابة المليون نسمة)، رهائن في وجه الزحف الأرضي أو القصف الجوي.
سؤال الـ«أين»، من جانبه، لا يصحّ أن يُختزل في الميادين الموصلية وحدها، أو تخومها القريبة مثل البعيدة؛ لأنّ تنظيم «الدولة» سوف يستأنف تكتيكاً بالغ الفعالية، سبق أن جُرّب مراراً في معارك «داعش» خلال الأشهر الأخيرة: أي تنشيط معارك محورية في مناطق بعيدة عن أرض القتال الفعلية، ولكنها عالية التأثير على قدرات الخصم في الحشد والتغطية والانتشار وتلبية المقتضيات اللوجستية. هذا فضلاً عن تنويع طرائق الهجوم المضاد، بين مواجهة كلاسيكية، وأخرى تعتمد السيارات المفخخة والانتحاريين، وثالثة تحوّل الكثافات السكانية المدنية إلى خنادق حماية… وليست الهجمات الانتحارية ضدّ مدينة كركوك، بعد ساعات قليلة من إعلان بدء معركة «تحرير الموصل»، إلا النموذج الأبكر على سلسلة مماثلة من العمليات، أشدّ وأمضى ربما.
سؤال الـ«أين» ينطوي، كذلك، على احتمالات الهجوم المضاد في مواقع أخرى داخل العراق، حيث ما يزال تنظيم «الدولة» يمتلك هوامش مناورة قتالية، وجيوباً سهلة التعبئة، وخلايا نائمة توكل إليها مهامّ التشويش والإرباك ودبّ الاضطراب. هنالك، أيضاً، احتمال نجاح «داعش» في استغلال خيار تكتيكي ميداني (يتردد أنّ مخططي وزارة الدفاع الأمريكية كانوا وراء اقتراحه)، يتمثل في تعمّد ترك ثغرات في خطوط حصار الموصل، تسهّل على مقاتلي التنظيم الانسحاب، أو الفرار، نحو الأراضي السورية؛ مما يتيح لعمليات القصف الجوي أن تكون أكثر فعالية. وبالطبع، الافتراض النظري هنا يمكن أن ينقلب إلى النقيض، أي أن تتحول تلك الثغرات إلى منافذ لتكتيكات مضادة في الكرّ والفرّ، وفي تغذية ساحات القتال، بدل استنزافها.
ويبقى أنّ سؤال الـ«كيف» يطرح معضلات شاقة على خصوم «داعش»، وهم كثر بالطبع، أبعد أثراً وأوخم عاقبة من معضلة سقوط «الدولة» في عاصمة خلافتها، وأكبر مدنها. وللمرء أن يبدأ من إشكالية تركيب القوات الزاحفة على الموصل، أي الوحدات الخاصة العراقية، إلى الجيش النظامي، فالتشكيلات العشائرية، ووحدات البيشمركه الكردية؛ وصولاً إلى عقدة المخاوف الكبرى، المتمثلة في قوات «الحشد الشعبي»، والتخوّف الجدّي من إقدامها على ارتكاب مجازر ثأرية ضدّ جمهور السنّة في المدينة. فبمعزل عن وضوح الفرضيات، أو الفرضية المركزية المتمثلة في طرد التنظيم من الموصل؛ كيف ستتناغم مصالح الحدود الدنيا بين هذه الأطراف؟ وماذا عن استطالاتها الإقليمية، لدى إيران وتركيا بصفة خاصة؟
وفي نهاية المطاف، مَن الجهة القادرة على ضبط التنافر أو توظيف التناغم، أو إدارة غوامض العاقبة؟
“القدس العربي”