صبحي حديدي
انحسرت، والمرء يشفق على القول: كادت أن تنطوي، مناخات التعاضد الوطني التي شاعت في تونس قبل سنتين، حين فازت «رباعية الحوار الوطني» بجائزة نوبل للسلام؛ لأنّ وساطتها، بين أطراف الحكم، «أطلقت عملية سياسية بديلة وسلمية في وقت كانت فيه البلاد على شفير حرب أهلية»، كما جاء في حيثيات الجائزة. اليوم يدخل «الاتحاد العام التونسي للشغل»، أحد أعضاء الرباعية، وأعرقها تاريخاً، وأعرضها شعبية ونفوذاً؛ في نزاع مع الحكومة، ينذر بنسف المزيد مما تبقى من روحية ذلك التعاضد.
ورغم أنّ الشكل الظاهر للخلاف كان قد تبلور حول تعديل وزاري اعتبره الاتحاد مجحفاً، أو ينال من موقعه السياسي والنقابي والاجتماعي في المشهد التونسي الراهن؛ ورغم أنّ ذلك التعديل تمّ صرف النظر عنه، أو شهد مناورة تكتيكية من الحكومة؛ فإنّ الأزمة ما تزال تحتدم في الباطن، لا لسبب آخر سوى أنّ الجوهر فيها غير مقتصر على منح حقيبة وزارية أو سحب أخرى. الأمر، في البدء كما في نهاية المطاف، يتصل بالبعد الاجتماعي الأعمق خلف ما تشهده تونس من تحولات، من جهة أولى؛ والدور الوظيفي ـ الاجتماعي أولاً، ولكن السياسي والوطني تالياً ـ الذي يلقيه اتحاد الشغل على عاتقه؛ منذ 71 سنة في الواقع، وليس منذ «ثورة الياسمين»، من جهة ثانية.
وليس صحيحاً تماماً، فهو ببساطة يجافي المنطق السليم لواقع الحال، أنّ الاتحاد نأى بالمنظمة بعيداً عن السياسة المباشرة؛ إذْ كيف يزعم التمثيل النقابي لفئات عريضة وطبقات واسعة في المجتمع، من العامل والموظف إلى المدرّس والصحافي، دون أن ينخرط في الإطار السياسي لمشكلاتهم الاجتماعية والحقوقية اليومية؟ وكيف ينأى، وهذه منظمة قدّمت للبلد شخصيات وطنية أيقونية، مثل فرحات حشاد، وأحمد بن صالح، والحبيب عاشور؛ وكانت في عداد قياداتها رموز فكرية وأدبية رائدة، مثل الأديب والمفكر والتربوي الإصلاحي الكبير محمود المسعدي؟
في الجانب الآخر من باطن النزاع، وهو اجتماعي ـ اقتصادي بامتياز هذه المرّة، يكمن توجس الاتحاد من احتمال رضوخ حكومة يوسف الشاهد لاشتراطات صندوق النقد الدولي؛ خاصة ما ينبثق، بحكم العادة، من «برنامج التعديل الهيكلي» الشهير، سيء الصيت، الذي يعتمده الصندوق كـ»دفتر شروط» في سياسات الإقراض للدول النامية. ولم يكن مفاجئاً أن تهرع هيئة نقابية دولية عليا لمناصرة اتحاد الشغل التونسي، وذلك حين أصدرت الأمانة العامة للاتحاد الدولي للنقابات بياناً شديد اللهجة، يقول: «يدفع صندوق النقد الدولي تونس إلى حافة الهاوية، مع آثار مدمرة على الاقتصاد والنظام الديمقراطي الفريد من نوعه تقريباً في المنطقة، الذي قام الشعب ببنائه بعد انتهاء الديكتاتورية سنة 2011. وستكون نتائجـه كارثية على تونس وجيرانها». وأيضاً: «ستدفع إملاءات الصندوق الإيديولوجية بالآلاف إلى الفقر، وستدمر التقدم الذي أحرزه التونسيون. وقد يؤدي تفاقم الأزمة الاقتصادية إلى ظهور الأصولية من جديد، وتزيد من خطر هجمات إرهابية في كل من تونس والبلدان المجاورة».
ثابت، في المقابل، أنّ إملاءات الصندوق الراهنة طُبّقت مراراً في كثير من الدول النامية، وفي دول أوروبا الشرقية التي انتسبت إلى النادي الرأسمالي بعد تفكك المعسكر الاشتراكي؛ لكنّ نتائجها لم تكن كارثية فقط، بل حوّلت الصندوق إلى مرابٍ كوني عملاق، علّة وجود سياساته الإقراضية هي تحصيل فوائد الديون. فلا تدخّل «برنامج التعديل الهيكلي» في وقف إفراط الاستدانة، ولا خفّف شروط خدمة الديون.
وذات يوم استخلص الاقتصادي الأمريكي جيفري ساكس أنّ الصندوق قد نصّب ذاته «سمكرياً وحيداً يتولى تسليك أنابيب التنمية في العالم النامي»؛ ولكن: «كما في الحكاية العتيقة، حين تحتاج إلى سمكري جيّد، فإنك لن تجده»!