على نقيض ما توحي به المظاهر، وبعضها يجري الإيحاء به عن سابق قصد وتصميم، لأغراض شتى عسكرية وعقائدية تعبوية؛ لا يلوح أنّ هزيمة «داعش» على امتداد مناطق نفوذها في العراق وسوريا، سوف تكون ماحقة ونهائية، لا يقوم للتنظيم بعدها قائمة. فمن المسلّم به، بادئ ذي بدء، أنّ ما اقتنصته مفارز البغدادي عن طريق معارك خاطفة وسريعة وصاعقة في سهولتها (نموذج الموصل، بصفة خاصة)، لن تتخلى عنه ضمن سيناريوهات مماثلة؛ خاصة في الجانب الكارثي الذي يخصّ الأثمان الفادحة التي يسددها المدنيون العزّل أوّلاً (في الموصل أيضاً، ولكن في مدينة الرقة على قدم المساواة).
التجارب الميدانية برهنت على هذه الخلاصة في الماضي، وليس ثمة اعتبارات جديدة أو طارئة تسمح بنقضها على نحو تامّ، والساحة في كلّ حال كفيلة بتوفير المعطيات الأصحّ على هذا، أو على ما ينقضه. مدهش، هنا، أنّ بعض أنساق التفكير المسطحة، في بعض أوساط التحليل العراقية أو السورية خاصة، تزدري هذه الخلاصة التي أثبتتها الوقائع طيلة ثلاث سنوات ونيف من أطوار صعود «داعش»، بل تنظر باستنكار ـ طفولي تماماً، جدير بعقلية دفن الرؤوس في الرمال ـ إلى مَنْ يحرص على احتسابها في أبجديات قراءة حال الانحسار التي يعيشها تنظيم البغدادي.
وإذا كان تسطّح العقول هو العلّة الأولى التي تستولد هذه الأنساق، وتُكثر من انتشارها والترويج لها هنا وهناك في وسائل الإعلام؛ فإنّ الآفة الأخطر خلف العلّة هي حسّ الانحياز الطائفي والمذهبي، الذي يطفح فوق مظاهر «العلمانية» و«الحداثة» و«العصرنة». ولن نعدم «حداثية» هنا، أو «طليعياً» هناك، يستنكر افتراض قدرة «داعش» على الكرّ والفرّ، معتبراً (من حيث العلَن) أنّ ترجيحاً كهذا يخدم التنظيم الإرهابي؛ بينما يكون الحافز الحقيقي (المستتر، دون أن يتموّه تماماً في الواقع!) هو التباكي على نقد قاسم سليماني، جنرال «الحرس الثوري الإيراني»، والتستر على المجازر التي يرتكبها «الحشد الشعبي» في الموصل؛ أو اعتبار الفظائع، التي تمارسها طائرات التحالف الدولي بحقّ المدنيين في الرقة، تشجيعاً لـ«الدعشنة»!
الخلاصة الأخرى، التي تصيب العقول المسطحة إياها بارتباك جلي، ينتهي إلى تأتأة ودمدمة وغمغمة أقرب إلى اللغو وإطلاق الترهات على عواهنها؛ مفادها أنّ مَن يفاوض «داعش» على (تحسين؟) شروط انحسارها، ليسوا سوى دعاة «الممانعة»، دون سواهم، أمثال حسن نصر الله (أي: خامنئي، المرشد الأعلى شخصياً)، وبشار الأسد (مجرم الحرب، رائد «تجانس» المجتمع السوري)، ونوري المالكي (بطل الفساد ورئيس وزراء تسليم الموصل لقمة سائغة لجحافل البغدادي)… صحيح أنّ الحروب تقتضي المفاوضات بين الخصوم، ولكنّ روح التفاوض الكبرى هي استسلام طرف لآخر، وليس تسهيل انتقاله (بحافلات مكيّفة!) من ميدان قتال إلى آخر، بما يفيد التوطئة لفتح جبهات اشتباك أخرى، وليس تعطيلها أو إغلاقها.
وما الذي يتوجب أن تتذرع به العقول المسطحة إزاء مفاوضات كهذه، لجهة تلك التهمة الحمقاء البلهاء: خدمة «الدعشنة»؟ مَنْ يخدم الدواعش أكثر: المساجلة، من باب التخوّف والحسابات المنطقية والعقلانية، حول المرونة القتالية التي اتسم بها التنظيم على الدوام؛ أم مفاوضات تمخضت عن ترحيل الدواعش من جبهة إلى أخرى، آمنين سالمين، والتغافل عن الأكاذيب التي أشاعها «حزب الله» حول المعركة الواحدة ضدّ «التكفيريين»، أينما كانوا؟ وكيف يمكن الحديث، أصلاً، عن «هزيمة» أو «انتصار»، لأيّ من طرفَيْ التفاوض، إذا كانت الجولة التالية ليست في المدى المنظور، فحسب؛ بل هي وشيكة محتومة، ولن تقتصر على الرقة ودير الزور والبوكمال، بل هي مرشحة دائماً للإياب إلى عرسال أو سواها… تماماً كما انتشرت فيه قبلئذ؟
ولكن… ما جدوى السؤال أصلاً، إزاء عقل تقنّع بالحداثة، وتسطّح بالمذهب!