في كتابهما «الأدب والأيديولوجيا في سوريا: 1967 ــ 1973»، الذي صدر سنة 1974 وأثار من ردود الأفعال ما «يعادل عدد صفحاته» كما صرّح الناشر (دار ابن خلدون)؛ يلجأ المؤلفان، بوعلي ياسين ونبيل سليمان، إلى تصنيف القاصّ والروائي السوري الراحل عبد السلام العجيلي (1918 ـ 2006) ضمن فصل أوّل بعنوان «شواهد المجتمع القديم». وفي تقديم هذا الفصل يكتب المؤلفان: «أما دعاة المجتمع القديم، أمثال عبد السلام العجيلي وبدوي الجبل وألفة الإدلبي، فليس من جديد عندهم، لولا تلك النزعة المعادية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني. وفي كل الأحوال، فإن قلة عدد هؤلاء الأدباء مؤشر آخر على أنّ دور الرجعية قد قارب على الانتهاء، ولولا المستوى الفني الرفيع لعبد السلام العجيلي لقلنا إنه انتهى».
ليس هنا المقام الملائم لاقتراح قراءة نقدية للعمل، رغم ضرورة مبادرة كهذه، في هذه الأيام على نحو خاصّ؛ ولكن الاحتفاء بمئوية العجيلي، هذا العام، تستوجب العودة إلى مثال ياسين وسليمان من زوايا ثلاث، بين أخرى ليست أقلّ دلالة: 1) أنها كانت أوّل قراءة ماركسية، وطبقية على نحو محدد، لأديب سارع معظم النقد اليساري في سوريا، تلك الحقبة، إلى وصمه بـ«الرجعية»؛ و2) أنها كانت أقرب إلى الدوغما الجدانوفية في اختزال الأدب (رغم انتماء الكاتبين إلى خيارات أكثر انفتاحاً ضمن التيارات النظرية الماركسية آنذاك)، منها إلى ما رسخه أمثال جورج لوكاش ورايموند وليامز في قراءة السرد وأبعاده الطبقية والثقافية؛ و3) أنها، بسبب من ذلك، أنصفت فنّ العجيلي، في السياقات ذاتها التي انطوت على الإجحاف بمضامين أعماله، وتلك كانت مفارقة دالة لا تخلو من جدلية بيّنة.
ولست واثقاً من أنّ حديث ياسين وسليمان عن «ثغرات» الكتاب، في مقدمة طبعته الثانية التي صدرت سنة 1985، يشمل العجيلي والإدلبي، أحدهما أو كليهما؛ أم أنه إعادة نظر عامة تخصّ معظم، وربما جميع، الكتّاب موضع الدراسة (وهم كثر، للإيضاح المفيد). يكتب المؤلفان: «ثمة ثغرة أخرى في الكتاب وهي أن تركيزنا على الفكر الذي يطرحه الأديب في أعماله، والطبقة التي يمثلها، جعلنا لا نبرز بما فيه الكفاية المفعول التقدمي الذي ربما أحدثه العمل المدروس من خلال عرضه الصادق لواقع المجتمع ولظروف الفرد العربي (…) كذلك وبنفس السبب أهملنا بعض الشيء مسألة ثورية الشكل الأدبي وتأثيرها العكسي على المضمون».
والحال أنّ القصور هنا ليس فادحاً من حيث المنهج وأولويات التحليل واستسهال إخلال الموازين بين المضامين والأشكال، فحسب؛ بل ثمة جمود، أو تجميد عن سابق قصد، لذلك الجدل الهائل والحيوي والخلاق الذي تستولده طبائع التعارض بين مضمون («رجعي» حسب تصنيفات الكتاب)، وشكل («ثوري» أو «رفيع»، ضمن القياس إياه)، والحصيلة المزجية الخاصة التي تنجم عن تلك السيرورة. بهذا المعنى، أيضاً، ومتابعة لحديث الثغرة أعلاه، رأى المؤلفان أنّ «ثورية الشكل» في أدب زكريا تامر «تعارضت هنا مع متطلبات كلّ من الواقع الجماهيري والإبداع الفني، إذْ رأينا أنّ هذا الأدب الكوابيسي محدود الأفق، وأنّ الشكل السيريالي يبعد هذا الأدب عن الجماهير العربية». ولعلّ التفصيل هذا كان، تحديداً، الأشدّ غبناً بحقّ أدب توجّب أن يُدرس في أبعاده كافة، وليس في بُعد أحادي انتقاصي بالضرورة؛ يساجل مثلاً بأنّ العجيلي في «فارس مدينة القنطرة» تجاهل «السبب الحقيقي لفقدان الأندلس»، أي «اهتراء النظام الإقطاعي العشائري (أو القبلي) الذي كان سائداً، وعدم قدرته على البقاء»!
جدل استحضار الماضي في أعمال العجيلي له ما له، وعليه ما عليه، غنيّ عن القول؛ ولكنه، في حصيلة اشتباك المضمون والشكل، حقل تصارُعٍ في المقام الأول، وليس إيحاءً بـ«نظرة ستاتيكية (سكونية) للتاريخ» كما يقول المؤلفان. يتأكد هذا أكثر حين يتضح أنّ الإحالات، بين ماضي الأندلس وحاضر الصهاينة والحكام العرب ومؤسساتهم العسكرية، لا تتقاطع إلا لكي تُحدث ما يشبه التوازي التناحري بين الأزمنة والأمكنة؛ كما أنها لا تشتبك في مهاد حكائية محايدة، بل ثمة الكثير من تنويعات السرد والضمائر والمشهديات. كذلك، في قراءة قصة «مذاق النعل»، يأخذ المؤلفان على العجيلي أنه يرى «التاريخ تاريخ حكام فقط، وليس تاريخ حركات جماهيرية، أو تاريخ طبقات وصراعات طبقية»؛ وفي هذا «فهم عتيق لا يناسب عصر حروب التحرير الشعبية، التي يهمها بالدرجة الأولى النظام الاجتماعي»!
بين 1975 و2006 جرت مياه كثيرة في أنهار الدنيا، ففي كتاب تكريمي بعنوان «الدكتور عبد السلام العجيلي جوهرة الفرات»، صدر في دمشق سنة 2006، سوف يكتب نبيل سليمان: «باتت لعبد السلام العجيلي مكانته الكبرى، مما جعل جان غولميه يقول فيه: «غوته وستندال وفلوبير أسماء أعلام في الأدب مشهورة، وعبد السلام العجيلي يستحق أن يُشبّه بأساتذة فنّ الرواية الكلاسيكية هؤلاء» (…) فأثر العجيلي الذي انطلق منذ ستين سنة من دائرته الصغرى (الرقة)، سرعان ما دوّى في الكتابة وفي الحياة الثقافية والعامة في الفضاء السوري خاصة، وفي الفضاءين العربي والعالمي عامة».
وقد يصحّ النظــر إلى خـــلاصات سليمان هــــذه بوصفها ردّ اعتبار متأخـــر، ولكنه مستحقّ، لقاء إجحاف سابق فادح.