في سنة 1953 كان أشعيا برلين، الفيلسوف والمؤرخ البريطاني الروسي الأصل، قد كتب مقالة مسهبة بعنوان «القنفذ والثعلب: مقالة حول نظرة تولستوي إلى التاريخ»؛ أراد منها الغرض المبيّن في العنون الفرعي، وضمّنها اقتراح لعبة فكرية على الجمهور العريض، كما صرّح بعدئذ. لكنّ المقالة، على ضوء اللعبة التي فيها، اتخذت وجهة جدّية بالغة التعقيد، وخضعت لتأويلات شتى، واستخدامات متقاطعة في حقول فلسفية وأدبية نقدية وسوسيولوجية وسياسية… لم تخطر في بال الرجل.
الجزء الأوّل في العنوان مستمدّ من بيت للشاعر الإغريقي أركيلوكس (680 ــ 645 ق. م.) يقول: «الثعلب يعرف أشياء كثيرة، لكن القنفذ يعرف شيئاً واحداً هاماً»؛ وفي الفقرة الأولى من مقالته يميّز برلين بين أولئك الذين «يربطون كلّ شيء برؤية واحدة مركزية، بنظام واحد، أقلّ أو أكثر انسجاماً وإفصاحاً، واتكاءً على مصطلحاته يفهمون ويدركون ويتحسسون مبدأ كونياً منفرداً منظِّماً»؛ وأولئك، من جانب آخر، الذين «يقتفون غايات كثيرة، غير مترابطة غالباً، أو حتى متناقضة، إذا حدث أنها تترابط فذلك عبر سبيل الأمر الواقع، لأسباب نفسية أو فيزيولوجية، لا تتصل بأيّ مبدأ أخلاقي أو جمالي». الفئة الأولى من الشخصيات الفكرية والفنية، يتابع برلين، تنتمي إلى القنافذ (في عدادها أمثال دانتي، أفلاطون، لوكريتيوس، باسكال، هيغل، دستويفسكي، نيتشه، إبسن، بروست…)؛ والفئة الثانية تنتمي إلى الثعالب (شكسبير، هيرودوت، أرسطو، مونتين، إرازموس، موليير، غوته، بوشكين، بلزاك، جيمس جويس…).
ولا تفوت برلين الإشارة الفورية إلى أنّ هذه اللعبة المقترحة على القارئ تعاني، مثل كلّ محاولة فرز ثنائي أو تصنيف تبسيطي، من معضلات عديدة ليس أولها الانزلاق إلى الشكلانية أو المدرسية، وليس آخرها الافتقار إلى الدقة والإفراط في الإطلاق. لكنها، حين لا تخضع للكثير من التمحيص النقدي والتدقيق الجدّي، تنفع في تسليط الضوء على جزء ما، كثير أو قليل، من الحقيقة، أو زاوية النظر الأحادية بالقياس إلى آخر موازٍ، أو المقارنة بما تنطوي عليه من إحكام الموازين. وفي المقابل، ثمة نموذج تولستوي الذي يستعصي على التصنيف في أيّ من الفئتين: أهو أقرب إلى شكسبير وبوشكين، منه إلى دانتي ودستويفسكي؟ أم أنه، في الحصيلة، لا يشبه أياً من الأربعة، ومن العبث أن تسري عليه قواعد اللعبة؟ خلاصة برلين، في ختام المقالة، هي أنّ تولستوي كان ثعلباً بالطبيعة، وقنفذاً بالاقتناع؛ وأنّ هذا الانشطار أسهم في إغناء أدبه، ولكنه تسبب في شقاء حياته أواخر العمر.
والحال أننا نعثر، في ميدان النقد الأدبي الأنغلو ـ أمريكي تحديداً، على تصنيفات من طراز آخر، لا تنتهي إلى ترسيخ الثنائيات المتقابلة، أو المتضادة، ولكنها تغوص عميقاً في مفهوم الذات، لجهة المؤلف؛ ومفهوم النصّ، لجهة التأليف؛ وكلّ ما يتفاعل في قلب هذه الأقطاب، أو يتصارع. والناقد الأمريكي هارولد بلوم أحد هؤلاء الذين وضعوا على عاتقهم أمر التنقيب عن الأفق (القنفذي، إذا جاز القول)، أو السقف ( الثعلبي، ضمن إجازة مقابلة) لدى طائفة واسعة من الكتّاب؛ ولكن ضمن معيار مركزي آخر، هو «قلق التأثير»، عنوان أحد كتبه الأشهر. وقد يصحّ القول إنّ أحداً من كبار المشتغلين بالنقد والنظرية الأدبية لم ينجُ من اتفاق هنا أو اختلاف هناك مع آراء بلوم، على امتداد مسار نقدي طويل امتدّ على خمسة عقود ونيف، ونحو ثلاثين كتاباً، غير عشرات المؤلفات والسلاسل التي أشرف على تحريرها. وفي «موروث الغرب»، 1994، تناول بلوم التراثات الأدبية الغربية ومصائر الأعمال الإبداعية، وكان شجاعاً كعادته حين أشار إلى أنّ الغرب يقوم بتدمير المعايير الفكرية والجمالية في الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية؛ وثمة «بَلْقَنة» للدراسات الأدبية، على يد مدارس نقدية مثل النسوية واللاكانية (نسبة إلى المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان) والتاريخانية الجديدة والتفكيكية والسيميائية…
لم يكن بلوم قد بلغ السبعين حين نطق بهذه الآراء، ولكنه في كلّ حال كان في منتصف العقد السادس، ولاح أنّ هذه الآراء تردّد أصداء موقف رجعي محافظ، غريب تماماً عن روحية الترحيب السابقة التي طبعت مواقفه من الفلسفة الأوروبية، ومن المدرسة التفكيكية بصفة خاصة (وهو التفصيل الذي شدّد عليه سعيد في مراجعته). وهكذا كان «شيخ النقاد»، كما يحلو للكثيرين أن يلقبوه، أقرب إلى مَنْ يراجع نفسه قبل أن يراجع الموروث الأدبي الغربي، وهي المراجعة التي سوف يعود إليها للمرّة الثانية في كتابه «كيف نقرأ، ولماذا»، 2000. المعلومات تنهال علينا من كلّ حدب وصوب، فكيف السبيل إلى الحكمة؟ هذا هو السؤال الكبير الذي ينطلق بلوم من إشكاليته لكي يدخل في ما يشبه «التفاوض» مع القرّاء، حول أفضل القراءات وأفضل السُبُل للقراءة.
ومنذ السطر الأوّل في الكتاب، يعترف بلوم أنه ما من طريقة واحدة محدّدة للقراءة الجيّدة، رغم وجود سبب واحد محدّد لكي نقرأ جيداً: هذا هو أفضل المُتَع التي توفّرها لنا العزلة، وهو من جانب آخر أكثرها قدرة على علاج النفس. وبهذا المعنى فإنّ أفق القنفذ يمكن أن يُفضي بالقارئ إلى سقف الثعلب، وأن تذهب به المعادلتان إلى رحاب قراءة مشتركة أوسع.