ياسين الحاج صالح
في خطاب ألقاه قبل أسابيع، ذكر بشار الأسد الرئيسَ التركي بصفة «الإخونجي أردوغان». مخطئٌ كعادته، فالرئيس التركي ليس «إخونجياً» ولا إسلامياً. إنه قومي تركي محافظ، يُعلي من المصلحة القومية لبلده على كل شيء آخر، بما في ذلك الإسلام. هذه النقطة مهمة في سياق سوري وعربي يُصرّ على إخوانية الحكم التركي الحالي أو إسلاميته لأسباب متناقضة، يجمع بينها أنها لا تساعد في تطوير فهم عقلاني لبلد مهم مثل تركيا، ولا في بناء سياسة عملية حياله تقوم على الاحترام والاستقلال والندية. لكن يبدو أن هناك من يشارك بشار الذي «ليس على كلامه رباط» الاعتقاد بأن أردوغان «إخونجي»: الإسلاميون السوريون في عمومهم، وبخاصة الإخوان المسلمون.
في بيان أصدروه قبل أيام، دعا الإخوان السوريون باسم «الأحرار السوريين» و«باسم المتطلعين إلى الغد الأفضل»، و«باسم المستضعفين» كذلك، «السيد الرئيس رجب طيب أردوغان» إلى فرض «منطقة آمنة» في الشمال السوري، قالوا له إنها «لن تكون آمنة… بغير رعايتكم الإنسانية الحكيمة والكريمة»، وهذا بعد أن كان البيان قد ساق مقدمات تفيد أن الأمن ممتنع في ظل «رعاية أسدية» كيماوية وبراميلية، أو في «ظل الروسي» الذي جعل من الأرض السورية «مختبراً لتجريب أسلحته»، أو في ظل «المطالبين بثارات الحسين»، أو أخيراً في ظل من قصفوا المدارس والمساجد و«تحالفوا مع إرهابيي بي واي دي» لمقاتلة «إرهابيي داعش». يرسو طلب الأمان، على السيد أردوغان.
يوهم البيان أن ما هو في الواقع اليوم مطلبٌ تركيٌ موجهٌ أساساً وحصراً ضد الفرع السوري لحزب العمل الكردستاني، هو ذاته مطلب منطقة حظر طيران طالب بها ثائرون ومعارضون سوريون قبل سنوات. لكن المحمي في الحالة الأخيرة هو مناطق سورية ثائرة من الاستباحة الأسدية وقت كانت الثورة السورية في تصاعد، أما اليوم فهو الأمن القومي التركي أساساً. وتركيا اليوم أحد أطراف ثلاثي أستانة الذي يجمعها بروسيا وإيران، ولها ضلع في سقوط حلب مقابل احتلال جرابلس. فإن أمكن لها توسيع منطقة نفوذها في شمال سورية، فسيكون ذلك بتفاهم مع شريكيها الآخرين، حاميي بشار الأسد، وليس لحماية السوريين. صحيح أن المناطق التي تسيطر عليها تركيا اليوم من الشمال السوري آمنة من عدوان المحمية الأسدية وحامييها الروسي والإيراني، لكن سكانها ليسوا محميين من قبل أتباع تركيا السوريين، على ما تكررت أمثلته المشينة في عفرين. لا يُعقل أن الإخوان لا يرون ذلك، لكنهم فضّلوا المزايدة على تركيا ذاتها بالقول إن من «حق الدولة التركية» القيام على هذه «المنطقة الآمنة»، وإنها إذا فرّطت في هذا الحق «فهي تفرّط بحقوق مواطنيها ومستقبل أمنها القومي والمجتمعي على السواء».
تركيا لا تنتظر غير أتراك لتبرير سعيها وراء مصالحها القومية، وإن ربما استخدمتهم كورقة إضافية في حساباتها مع شركائها وخصومها. لكن أن لا يرى سوريون أن ذلك يتحقق على حساب قضيتهم، بل أن يكونوا شهود زور على أن ما يَشغل الحكم التركي هو مصلحته كحكم ومصلحة بلده، فهذا يخرجهم من السياسة السورية إلى أن يكونوا عنصراً في سياسة غيرهم، أداة أو ورقة تُستخدم ثم تُرمى.
وليس من الأمانة في شيء أن تُرفع في وجه من ينتقد السياسة التركية في الشأن السوري أوضاعُ اللاجئين السوريين في تركيا، وحسن معاملتهم عموماً بالقياس إلى الجوار العربي وغيره. ما تُشكر عليه تركيا في الملف الإنساني، يُهدر كلية إن عُومل كثمن مسبق لمكاسب سياسية لاحقة في وطنهم.
وبنظرة أوسع، يندرج بيان الإخوان في سياق تحولات بعيدة الأمد وخطيرة العواقب في الإسلامية السورية، يوحدها نزع وطنيتها والتحاقها بتركيا. يشمل ذلك حركة أحرار الشام ومجموعات إسلامية أخرى بعضها تابع ببساطة للمخابرات التركية، ويشمل كذلك منذ نحو عام جيش الإسلام، الذي تعرض قيادته تشكيلها المافيوي كمرتزقة في معارك تقرر تركيا الخصوم والاستراتيجية فيها، مقابل مكاسب مادية وحماية سياسية. وليس الإخوان المسلمون وحدهم من يُضافون إلى التشكيلين السلفيين، بل كذلك مشايخ ومجموعات علمائية، تؤول بمجموعها إلى استتباع البيئات السنية السورية وتحويلها بكل معنى الكلمة إلى جاليات تابعة، خارج السياسة. لم يكن الحكم الأسدي يطمع بما هو أكثر من ذلك.
ويسجل بيان الإخوان الطابعَ المضاعف لأوهام الإسلاميين السوريين: لا يتعلق الأمر بتبعية لدولة أخرى، بل بتبعية لدولة قومية، توسّعية مثل أي دولة قومية، يسرها وهمكَ الإيديولوجي كإسلامي، ولكنها غير ملزمة به في شيء. أنت تضلل نفسك من حسابك، وليس من حساب من تتبعه.
هناك بالمناسبة سابقة مهمة في هذا الشأن. ما قامت به الأسرة الهاشمية وقوميون عرب، قبل أزيد بقليل من قرن واحد، من تعاون مع البريطانيين ضد حكومة الاتحاد والترقي في السنوات الأخيرة من السلطنة العثمانية، وذلك في سياق أثمر سايكس بيكو وتقسيم المنطقة، نجت منه تركيا بسلسلة فظيعة من الحروب، وتحت سلطة نخبة قومية متطرفة. من يشغلون اليوم موقع الهاشميين هم الإسلاميون السوريون الذين يُوهمون أنفسهم لوجه الله بأن «المنطقة الآمنة الصغيرة» التي يرجون أردوغان فرضها، يمكن أن تكون «قاعدة انطلاق إلى الغد الأفضل ليأمن كل السوريين على كل الأرض السورية الواحدة الموحدة».
في بيان الإخوان وفي سياسة الإسلاميين فقدان للكرامة لا يسوغه بحال أن يكون النظام الدولي قد آل إلى تحوّل سورية إلى محمية أسدية. ليس الأسديون مثالاً إلا للخسّة وانعدام الكرامة. ثورة الكرامة هي الاحتجاج الذي خرج من أعماق سورية على العار الأسدي، ودرس ثورة الكرامة بعد ثماني سنوات يقول: إن خسرنا الكرامة، خسرنا كل شيء حتى وإن لم نخسر شيئاً، وإن لم نخسر الكرامة، فسوف نسـتأنف الصراع بعد حين بقوة متجددة، حتى وإن خسرنا كل شيء غيرها.
قد يكسب الإخون شيئهم الصغير، «المنطقة الآمنة الصغيرة»، لكن بثمن خسارة الكرامة وكل شيء آخر. هذا عدا أن ما يكسبونه، إن كسبوا، إنما هو لغيرهم.
“الجمهورية”