تعليق الاستاذ مناف الحمد:
ثلاثة تيارات فلسفية عرفها التاريخ. كان وراء ظهور كل منها اشتداد الظلم والقهر على الطبقات الشعبية من قبل الطبقات المسيطرة. التيارات الثلاثة عملت بداية ظهورها من أجل تغيير اجتماعي يخفف من ظلم الانسان لأخيه الإنسان بالنهاية .
التيار الديني : كل الأديان بلا استثناء دعت الى خلق انسان يحب لأخيه ما يحب لنفسه , وكل رسلها وأنبياؤها ومصلحيها انحازوا الى الفقراء ضد ظالميهم من الأغنياء .
التيار اليساري : اليسار بكل تفرعاته مع توزيع عادل للثروة بحيث يكون للمنتجين فيه نصيب منها يتناسب مع جهدهم, وهو مع العنف الثوري للوصول الى هذا التوزيع العادل.
التيار اللبرالي : انطلق اللبراليون من فكرة الحرية الفردية بكل أبعادها, ودعوا الى احترام الملكية الخاصة والتشجيع عليها عبر تنافس حر شريف على أرضية عقد اجتماعي يتم بموجبه العمل من اجل
تحرير الانسان من تسلط رجال الدين
تحرير المحكومين من سيطرة الحكام الظالمين
تحرير السوق من تحكم التجار الجشعين .
ربطت اللبرالية التحرير الذي تدعو اليه بتحرير العقل من الخرافات عبر التعليم العام حيث المعرفة قوة , كما ربطته أيضا بالقيم والأخلاق التي توصل مع العلم الى حياة أفضل وعدالة أعّم وأشمل .
بكل أسف ومرارة أقول : تمكنّت الطبقات الغنية بخبثها وذكائها وتجربتها في الحكم من هضم التيارات الفلسفية الثلاثة وتحويلها مع الزمن الى عكس ما دعت اله أوّل انطلاقتها .
على سبيل المثال لا الحصر, تنّكر قساوسة ورهبان الدين المسيحي فيما بعد لتعاليم المسيح الأولى التي تنص على اّن دخول جمل في خرم ابرة أسهل من دخول غني الى ملكوت الله , واتجّهوا لعبادة المال بدلا من عبادة الله ووصل بهم الأمر الى سلب الفقراء المسيحيين الدينين ما زاد عن حاجتهم عن طريق بيعهم صكوك الغفران .
أما الدين الاسلامي الذي أراد ان يمّكن المستضعفين في الأرض وحارب رسوله حكم السلالات المرزول داخل امبراطوريتين مجاورتين لمهد الدعوة . انتهى الى دعم سلالات أكثر رذالة باسم الحق الالهي الممنوح لها من الله .
اما اليسار فقد خدم الأغنياء خير خدمة بإرادويته الشهيرة ومحاولته حرق المراحل, لنستفيق مؤخرا على كذبة كبيرة روّج لها المعسكر الاشتراكي – وعلى راسه الاتحاد السوفياتي – اسمها “دولة الشعب بأسره ” فاذا بهذه الدولة تحتضن كل اللصوص والفاسدين الذين نهبوا الدولة وأثروا ثراء هائلا ساعدهم بامتلاك ثروات جُندت لخدمة المليارديريين في العالم أمثال رئيس أمريكا الحالي ترامب .
النجاح الأكبر للأغنياء كان في حقل اللبرالية بالذات وهنا بيت القصيد في هذه الدراسة المتواضعة.
احب أن أقول للصديق مناف الحمد بأنني قرأت كل مقالاته عن اللبرالية وخاصة
مقال اللبرالية بين قرني المعضلة النخبوية والديمقراطية
ومقال الوجه المظلم للبرالية
اضافة الى مراجعته وتعليقه على كتاب الوجه المظلم لليبرالية (النخبوية ضد الديمقراطية )تأليف: روبرت هولينغر كاليفورنيا/ الولايات المتحدة الأميركية , تاريخ النشر: 1996.
نعم يا صديقي نجح ممثلو رأس المال المتوحش في البلدان الغربية من تعديل مسار اللبرالية لتصبح أكبر داعم لرأسمالهم . النجاح الأكبر كان في تحويل الناس منذ الولادة لكي يصبحوا أكثر كفاية، وإنتاجية في نظام شركاتهم.
سأحاول هنا ان أدعم فكرتك بإضافتي ما كتبه الفيلسوف الكندي آلان دونو عن سيطرة التافهين في كتابه الشهير – نظام التفاهة- بعد عشر سنوات من الفيلسوف الأمريكي الذي راجعت وعلقت على كتابه
يُفسر الفيلسوف أسباب السيطرة باستنادهم الى عاملين
العامل الأول هو تحويل مفهوم العمل في المجتمعات. المهنة» صارت «وظيفة». صار شاغلها يتعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير .
العامل الثاني مرتبط بعالم السياسة ومجال الدولة والشأن العام. هنا بدأت سيطرة التافهين برأي الفيلسوف, فقد ولدت مع عهد مارغريت تاتشر. يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم. استبدلوا السياسة بمفهوم «الحوكمة»، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم «المقبولية المجتمعية»، والمواطن بمقولة «الشريك». في النهاية صار الشأن العام تقنية «إدارة»، لامنظومة قيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا
من هذين المنطلقين، تنميط العمل وتسليعه وتشييئه، وتفريغ السياسة والشأن العام، صارت التفاهة نظاماً كاملاً على مستوى العالم. وصارت قاعدة النجاح فيها أن «تلعب اللعبة». حتى المفردة معبرة جداً وذات دلالة. لم يعد الأمر شأناً إنسانياً ولا مسألة بشرية. هي مجرد «لعبة». حتى أن العبارة نفسها راجت في كل لغات عالم التفاهة: أفضل تجسيد لنظام التفاهة هي صورة «الخبير». هو ممثل «السلطة»، المستعد لبيع عقله لها. في مقابل «المثقف»، الذي يحمل الالتزام تجاه قيم ومثل. جامعات اليوم، التي تموّلها الشركات التي صارت مصنعاً للخبراء لا للمثقفين!
هكذا يرى دونو أنه تم خلق نظام حكم التافهين. نظام يضع ثمانين في المئة من أنظمة الأرض البيئية عرضة لأخطار نظام استهلاكهم. ويسمح لخمسين في المئة من خيرات كوكبنا بأن تكون حكراً على واحد في المئة من أثريائه. كل ذلك وفق نهج نزع السياسة عن الشأن العام وعن التزام الإنسان.
نعم يا صديقي لقد انتهت اللبرالية في الغرب الى لبرالية المحافظين الجدد ونظام التفاهة التابع لهم وهناك فلاسفة غربيون مثل الأمريكي روبرت هولينغر والكندي آلان دينو والفرنسي توماس بيكيتي يتابعون مسار جانبها المظلم المعمم هناك.
لكن بالله عليك هل يحتاج فلاسسفة الغرب الى دعم فلاسفتنا من أجل تعرية جانبها المظلم ؟ وهل ثورة الحرية والكرامة في سوريا تحتاج الآن الى تبصير جماهيرنا بهذا الجانب؟ أم الى تبصيرهم بجانبها المضيء أول انطلاقتها حين دعت الى الحرية والكرامة التي يطالب بها الشعب السوري الآن ؟!
لا اريد السجال فلسفيا في هذا التعقيب المتواضع وبشكل خاص تشويههم لأفكار عميد اللبرالية في الغرب جون ستيوات ميل حول إشكالات الديمقراطية ومعوقاتها مثل ما سماه استبداد العادة.
فقط اريد الآن المقارنة بين الفلسفات الثلاث. فلسفة الأديان وفلسفة الماركسية وفلسفة اللبرالية التي هي الأضعف بكثير في شارعنا العفوي والسياسي من التيارين السابقين .
ان اللبرالية يا صديقي هي فلسفة ذات نهايات مفتوحة يمكن تعديلها بما يتناسب مع الظرف الحالي ولخدمة الطبقات الشعبية والتطور العام, في حين يستحيل تعديل نظام الأديان الميتافيزيقي والذي يرّد أي ملكية لله تعالى وليس للبشر, ولكنني لا أنكر مساهمة الأديان في خلق منظومة قيم أخلاقية تعمل لمصلحة الفقراء وأهميتها لنا الآن اذا ربطنا بينها وبين نظام حداثي ينطلق من قوانين أرضية لا دور للسماء فيها. اما بالنسبة للفلسفة الماركسية فهي نظام ديني أرضي شمولي مغلق مثل نظام الأديان تقريبا, ويستحيل جعلها مواكبة لروح العصر. على سبيل المثال لا الحصر آياتها التالية:الدولة لجنة الطبقة المسيطرة . الحرية وعي الضرورة , الصراع الطبقي محرك التاريخ .. الخ
مع ذلك فأنا أقّر بان لفلسفة الأديان وفلسفة الماركسية حضور في شارعنا العفوي والسياسي اكبر بكثير من حضور الفلسفة اللبرالية,ويحزنني جدا تلك المعارك الجانبية بين القوى الثلاث وما فيها من غيرة ونرجسية منعتنا من وضع آلية مشتركة تساعد جماهيرنا المنتفضة في دفع بلادنا من فضاء الاستبداد الى فضاء الديمقراطية
من هذه المعارك الجانبية ما فعله ويفعله يسارنا المقاوم حتى الآن بجميع أجنحته وخاصة بعد مؤتمر اعلان دمشق عام 2007 وكيف أشاعوا بان اللبراليين الجدد سيطروا عليه وحرّفوه باتجاه خدمة الطبقات الغنية, مع ان جميع أبناء التيار من خلفية يسارية ولا زالوا يحملون هّم فقراء وطنهم, لكنهم يعتقدون ان العمل لأجلها لا يكون برفع الشعارات والإكثار من الشتائم, بل بدراسة متأنية لتوازن القوى على الأرض وتحديد السلسلة الايجابية والسلسلة السلبية في المجتمع ومحاولة التأثير فيها باتجاه خلق تنمية عريضة تخدم المجتمع بكل طبقاته وفي مقدمتهم الفقراء .
اتّهم يسارنا المناضل لبراليي اعلان دمشق بأنهم لبراليون جدد مناصرين للبرالية تاتشر وبوش, كما فسّروا محاولتهم الاستقواء بثقافة وحضارة البشرية المتمثلة بمؤسسات المجتمع الدولي الحالية وطلبهم منها مساعدتنا في الضغط على مستبدينا من اجل الانتقال الى نظام ديمقراطي جديد, بانه دعوة رسمية لتدخل الخارج الطامح بثرواتنا من أجل اسقاط عسكري لنظامنا , ومع ان المجتمع الدولي خذل التيار والثورة السورية , الا ان ذلك كان وما يزال عملا صحيحا وسليما على ما اعتقد .
اما بالنسبة الى اللاذقية – مدينتي- ومركز اليسار السوري تقريبا,فبإمكاني تزويدك يا صديقي بالكثير مما فعله رموز اليسار على اختلاف مشاربهم – معارضون وموالاة وبين بين- تجاه رموز هذا التيار, انهم يرفضون حتى تسميتهم باللبراليين الجدد بل يسمونهم
( المتلبرلون الجدد ) لدرجة أن احد كوادر حزبكم القدامى طالب رجال الأمن في اللاذقية التعامل مع رموز التيار بوصفهم مجرمين جنائيين وليسوا مجرمين سياسيين .
يؤسفني يا صديقي ان اقول لك بمرارة . ان تركيزك على الجانب المظلم في اللبرالية يأتي وكأنه خدمة مجانية لرموز اليسار الذين يتبعون برهان غليون في شعاره العريض
– فصل الديمقراطية عن اللبرالية شرط تعميمها في العالم العربي –
مع ان التيار مثلك يرّوج لثقافة التعدد والتنوع والاختلاف ويعّد ذلك الضمانة الأساسية لخدمة ثورتنا .
اختم مداخلتي بنفس الكلمات التي ختم بها الفنان سميح شقير مداخلته في اللقاء التشاوري الذي عقد مؤخرا في فرنسا – الكلمة كلها معبرة وتحمل هموم ووجع كل السوريين المصرّين على اكمال المشوار – ودعا فيه الى إنتاج خطاب جديد.
ينفتح على كل السوريين
ولا يتهاون مع قاتليه
خطاب يعطي الوزن والثقل للخيار الديمقراطي الذي تحاول قوى كثيرة تغييبه عن المشهد
تعالوا لا نساعدهم على ذلك
تعالوا كي نصنع اللحظة الفاصلة
وكي ننسق هذا الرذاذ الديمقراطي
لنجعل منه نهراً دافقاً تحرسه ابتسامات السوريين وتحفظه قلوبهم
دمتم معاً والطريق طويل
كامل عباس – اللاذقية