ترجمة أحمد عيشة
تسعى الولايات المتحدة بجدية لتحديد سياستها تجاه سورية، ولكنها لمّا تدرك بعدُ كيفية تغيّر ساحة المعركة، منذ الدخول التركي في تشرين الأول/ أكتوبر 2019. مع وجود عدد قليل جدًا من القوات الأميركية على الأرض، لا تملك واشنطن الأدوات اللازمة لتقديم النصائح وإنجاز مهمة المساعدة التي نجحت في أثناء المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، على طول الحدود التركية السورية وفي وادي نهر الفرات. لقد انهارت الآلية القديمة لردع الأعمال الروسية في أقصى شمال نهر الفرات، ولم تعد الولايات المتحدة تسيطر -بحكم الأمر الواقع- على سماء شمال شرق سورية. فالنظام السوري يسيطر الآن على نقاط على طول الحدود، حيث كانت الولايات المتحدة ذات يوم منتشرة فيها، ودخل الروس إلى منبج، وهي مدينة تنازعت عليها واشنطن وأنقرة ذات مرة، والجيش التركي محصور في منطقة وقف إطلاق نار متفق عليها، بين تل أبيض وكوباني، وهما المدينتان اللتان أثبتتا جدوى الاستراتيجية الأميركية في سورية عام 2015.
الغريب أن النهج الأميركي المخفف قد يوفر للإدارة القادمة، سواء كانت من نصيب جو بايدن أو دونالد ترامب، نموذجًا للتعامل مع موسكو. اتُّبع هذا المفهوم خلال إدارة أوباما: آلية لاستهداف قائمة مشتركة من الجماعات الإرهابية، بحسب تصنيف الأمم المتحدة. إبّان إدارة أوباما، سُميت هذه الآلية “مجموعة التنفيذ المشترك”، وكانت ثمرة مفاوضات بين جون كيري، وزير الخارجية السابق، وسيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي. كان الاقتراح، في ذلك الوقت، مثيرًا للجدل لأنه استلزم مشاركة البيانات مع روسيا، وكان ضعيفًا من الناحية القانونية، وكُلفت وزارة الدفاع بمهمة مشكوك في نجاحها.
كافحت الولايات المتحدة وروسيا أيضًا لتحديد هوية الإرهابيين ومكان وجودهم بشكل ملموس، بالنظر إلى طبيعة التمرد المناهض للأسد في إدلب، وإلى أن الجماعات المدعومة من الولايات المتحدة كانت متورطة في بيئة متمردة أوسع كان يسيطر عليها فرع سابق من القاعدة. أرادت واشنطن أن تتحكم في الضربات الجوية الروسية، وإجبارها على عملية تستهدف فقط شريحة صغيرة من المعارضة الواسعة المناهضة للأسد، بينما عدّت موسكو أن المعارضة كلها موالية للقاعدة، وقامت بقصفها وفقًا لذلك. لم يتمكن الجانبان من التغلب على خلافاتهما في عام 2017، لكن الديناميكيات تغيرت في عام 2020، وبالتطلع إلى الأمام، قد تكون هناك فرصة لمتابعة آلية مخففة تسمح للولايات المتحدة بمواصلة مهمتها في مكافحة الإرهاب، في البلد الذي أظهر كل من ترامب وبايدن أنهما سيدعمانه. لا تحتاج هذه الآلية إلى إعادة اختراع العجلة، بل إلى تقنين اتفاقٍ يسمح بالتحليق الأميركي فوق إدلب لضرب المتطرفين.
شيزوفرينيا (تناقض) سورية
تعاملت إدارة ترامب مع سورية بطريقة سيئة، بسبب الانفصال بين الرئيس ومستشاريه بشأن هدف القوات الأميركية في البلاد، وتبني المبعوث الخاص لوزارة الخارجية موقفًا متشددًا، لا يترك مجالًا للتسوية السياسية مع موسكو بشأن مستقبل الدولة السورية. بينما قد يكون من المرضي للبعض الحديث عن عقوبات صارمة تفرض على دمشق، بسبب فظائعها في مجال حقوق الإنسان، فإن الحقيقة هي أن الولايات المتحدة لم تردع تصرف النظام، وأن نظام الأسد يملك الدعم الذي يحتاج إليه لكسب الحرب. على الجانب الآخر من الصراع، المعارضة المناهضة للأسد منقسمة وضعيفة، وخاضعة للمتطرفين الذين يمارسون سلطة فعلية في إدلب، حيث اتفقت موسكو وأنقرة على وقف هش لإطلاق النار، يكاد يكون من المؤكد أنه سينهار في نهاية المطاف. ويكاد يكون من المحتم أن تعود إدلب في نهاية المطاف إلى سيطرة النظام، ولو في حدها الأدنى.
بالنسبة إلى البعض في واشنطن، يُنظر إلى استخدام تركيا للقوة لمعاقبة النظام على هجومه، في أواخر آذار/ مارس ونيسان/ أبريل، على أنه انتصار، بسبب الخسائر التي فرضتها الطائرات التركية من دون طيار على دروع ومعدات النظام. يكشف التحليل الجاد لتلك المناوشة القصيرة أن أنقرة تكبدت 60 ضحية في الضربات الجوية والمدفعية من النظام وروسيا، وكان عليها تسوية وقف إطلاق النار الذي عزز سيطرة روسيا والنظام على الطريقين السريعين الرئيسيين في البلاد. في أحسن الأحوال، كانت المعركة بمنزلة التعادل، لكن الحقيقة هي أن أنقرة وافقت على شروط وقف إطلاق النار التي تركت بعض قواتها محاصرة في إدلب. وكشف القتال في إدلب أن أنقرة لن تستهدف الطائرات الروسية، الأمر الذي أثبت أنه حاسم في وقف خسائر النظام (بسبب ضربات الطائرات المسيرة التركية) وضمان تحقيق النظام لأهدافه العسكرية.
إذا قبل المرء أن المعارضة لا يمكنها الفوز، فيجب أن يكون الواجب السياسي هو إدارة الهزيمة والتأكد من إمكانية تحقيق مجموعة من المصالح الأميركية المحددة بدقة. مع وجود عدد قليل جدًا من القوات في البلاد، حولت الولايات المتحدة هدفها، من الاستيلاء على الأراضي، إلى اصطياد الإرهابيين. وأدوات القيام بذلك، التي كانت عاملًا أساسيًا في العمليات القتالية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، هما قوات العمليات الخاصة الأميركية المتخصصة المنتشرة في سورية، والطائرات المسيّرة.
ومع ذلك، منذ عام تقريبًا، لم تحلق الطائرات الأميركية من دون طيار فوق إدلب، بسبب شروط اتفاقية خفض التصعيد التركية الروسية لعام 2017. بعد التوصل إلى هذا الاتفاق، توقفت الطائرات الأميركية المسيرة التي كانت تبحث عن أهداف مرتبطة بالقاعدة عن الطيران في إدلب، واستُخدمت حصريًا ضد تنظيم الدولة الإسلامية. مع هزيمة دولة الخلافة، تبحث تلك الطائرات المسيّرة الآن عن قيادة الجماعة، ويبدو أن كثيرًا منهم قد هربوا إلى إدلب. توصلت إدارة ترامب -بهدوء- إلى تفاهم مع روسيا لبدء التحليق فوق إدلب مرة أخرى، على الأرجح بعد أن نفذت قوات العمليات الخاصة الأميركية المتخصصة غارة لقتل أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية. كان التفاهم، وفقًا للمقابلات التي أجراها هذا الكاتب، حول بعض المبادئ العامة، مثل عدم تحليق الطائرات الأميركية فوق القواعد الروسية، يتوقف على فرضية بسيطة للغاية: من غير المرجح أن تعترض روسيا على تحليق الولايات المتحدة في الجو، إذا كان يهدف إلى محاربة المتطرفين.
ومهما كانت التفاصيل، فإن الاتفاقية هي ما ستبدو عليه سياسة مكافحة الإرهاب المخففة في سورية، ويمكن أن تكون نموذجًا للعمل الأميركي المستقبلي في البلاد وللمحادثات الجارية مع موسكو. إذا فاز ترامب بإعادة انتخابه، فمن غير المرجح أن يصدّق على أي زيادة في القوات الأميركية في سورية. وينطبق الشيء نفسه على إدارة بايدن، التي يتعين عليها التفكير في زيادة القوات الأميركية، للقيام بالأفضل في أي مجال، بخلاف الاستمرار في تسيير الدوريات بالشراكة مع الأكراد السوريين. في ظل غياب المزيد من القوات الأميركية، من المؤكد تمامًا أن روسيا ستوسع وجودها في سورية. قد يتعين على الإدارة المقبلة النظر في زيادة القوات الأميركية في سورية، إذا أرادت القيام بأكثر من مجرد شن ضربات بطائرات مسيّرة. يكاد يكون من المؤكد أن إدارة ترامب ستقاوم أي إجراء من هذا القبيل، في حين أن رئاسة بايدن ستواجه قيودًا سياسية، وقد تختار عدم زيادة أعداد القوات المنتشرة في البلاد.
ومن المحتمل أيضًا، خلال الإدارة الأميركية المقبلة، أن تسقط إدلب بيد النظام، تاركًا القوة الشريكة للولايات المتحدة، “قوات سوريا الديمقراطية”، بين المصالحة مع النظام، أو المخاطرة بصدام مع النظام والقوات الجوية الروسية. بدأت القيادة الروسية بالفعل في الضغط على الجنرال مظلوم عبدي (قائد قوات سوريا الديمقراطية) لفكّ شراكته مع الولايات المتحدة وتعميق المحادثات مع دمشق. وسيزداد هذا الضغط قوة في الأعوام المقبلة، وفي النهاية، سيتعين على “قوات سوريا الديمقراطية” الاستسلام للنظام، أو مواجهة صراع طويل الأمد قد لا تتمكن الولايات المتحدة من السيطرة عليه أو إدارته.
تضييق المصالح
لدى الولايات المتحدة مصلحة في ضمان أن تنتزع “قوات سوريا الديمقراطية” أكبر قدر ممكن من التنازلات من دمشق، حتى لو أظهر الأسد القليل من الاستعداد لتقديم تنازلات. لهذا السبب، يجب على الولايات المتحدة طرح هذا الموضوع مع موسكو. وللقيام بذلك، يجب على واشنطن الدخول في المحادثات بفهم متبصر، مفاده أن كسب الدعم السياسي الروسي يستلزم إضفاء الطابع الرسمي على سيطرة النظام على الحدود، وامتلاك آلية لوجود شكل من وجود النظام في المدن التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” الآن. وكجزء من هذه المحادثات، يجب على الولايات المتحدة الضغط من أجل استمرار مهمة القوات الأميركية في مكافحة الإرهاب، باستخدام الأدوات التي تُستخدم الآن لاستهداف المتطرفين في إدلب. يمكن نقل هذه القوات إلى العراق أو الأردن، أو البقاء في سورية، والطيران وفقًا لاتفاقية أوسع مع موسكو، بشأن ضرورة استهداف الجماعات الإرهابية التي حددتها الأمم المتحدة. سيحاكي هذا الاقتراح عناصر من مجموعة التنفيذ المشترك، لكنه يستبعد أي حاجة إلى مشاركة معلومات الاستهداف، وإضفاء الطابع الرسمي بشكل أساسي على الفهم المزعوم بأن على الجانبين التحليق فوق إدلب لمهام مكافحة الإرهاب.
لم تكن للولايات المتحدة سياسة فعالة تجاه سورية، منذ سقوط “دولة الخلافة”. تتبع إدارة ترامب سياسة انفصامية، حيث تحتضن عناصر الإدارة بشكل وثيق التركيز في عهد أوباما على الإكراه والعقوبات في محاولة لفرض استسلام النظام، بينما يضغط دونالد ترامب من أجل انسحاب شبه كامل للقوات الأميركية. لدى الولايات المتحدة عددٌ قليل جدًا من القوات في سورية، لردع عمل روسيا أو النظام، لكنها لا تزال تحتفظ بالنوع الصحيح من الأدوات لاتباع استراتيجية ضيقة لمكافحة الإرهاب. تحظى هذه الإستراتيجية بدعم من الحزبين، ومن المرجح أن تشكل تفكير الولايات المتحدة بشأن الصراع لما بعد عام 2021، بغض النظر عن الفائز في انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر. وهذا يخلق فرصة للتواصل مع روسيا بشأن قضية كانت تقدرها ذات يوم، وهي التزام أميركي روسي غامض باستهداف المتطرفين، ولكن بطريقة تحمي الولايات المتحدة من مشاركة المعلومات أو التعاون مباشرة مع القوات الروسية. هذا النموذج يستحق التفكير فيه، لأن زيادة القوات الأميركية أمرٌ غير محتمل على الإطلاق. تحتفظ الولايات المتحدة ببعض المصالح الصغيرة في سورية، ويمكن استخدامها لتوليد نفوذ سياسي، في حالة واحدة فقط: إذا تم تقليص أهداف الولايات المتحدة، وبُنيت حول أشياء يمكن تحقيقها.
اسم المقالة الأصلي | The Idlib Model: Securing American Counter-Terrorism Interests in Syria |
الكاتب* | آرون شتاين،Aaron Stein |
مكان النشر وتاريخه | معهد أبحاث السياسة الخارجية،FOREIGN POLICY RESEARCH INSTITUTE |
رابط المقالة | https://bit.ly/3kierNE |
عدد الكلمات | 1433 |
ترجمة | قسم الترجمة/ أحمد عيشة |
*– آرون شتاين هو مدير الأبحاث في معهد أبحاث السياسة الخارجية، وهو أيضًا مدير برنامج الشرق الأوسط والقائم بأعمال مدير برنامج الأمن القومي في المعهد نفسه.