ميدل إيست بريفينج: ترجمة عبدالرحمن النجار- ساسة بوست
مثّل الاتفاق النووي الإيراني بالفعل نقطة تحول في ميزان القوى في الشرق الأوسط. كان تأثير الصفقة ذي شقين. في الواقع، أعطى الاتفاق إيران الفرصة لتجميد مسيرتها نحو إنتاج سلاح نووي لنحو 15 عامًا، في أحسن الأحوال، في مقابل تطبيع العلاقات الدولية. كما حررها أيضًا من قيود العقوبات، وسيملأ خزائنها بأموال طائلة ومنح مؤسساتها السياسية الثقة وأكد أن تحدي القوانين الدولية وعدم احترامها يمكن أن يعود بسخاء.
ضخم الاتفاق النووي من الانطباع المسبق بأن الولايات المتحدة ستنسحب من المنطقة. سبق الصفقة بالفعل انخفاض انخراط الولايات المتحدة في الشأن الإقليمي. وقد ساعد هذا السياق على تشكيل التصور العربي بأن الولايات المتحدة اتخذت جانب إيران، وأنها تخلت عن حلفائها التقليديين في المنطقة.
شاهدنا بعض النظريات عن تعاون الولايات المتحدة مع إيران في مرحلة ما بعد الصفقة النووية في الشرق الأوسط. كما رأينا أيضًا نظريات أخرى تبالغ في تأثير الصفقة على مواقف المعتدلين في طهران، وكيف أنها سوف تساعد روحاني. ومع ذلك، سارت الأمور في اتجاه مختلف.
اختارت إيران، بعد توقيع الاتفاق، سياسة إقليمية أكثر عدوانية وسقف أعلى لطموحاتها الإقليمية. فلماذا كانت هذه الافتراضات الخاطئة بعيدة حتى الآن عن حقيقة ما حدث؟
أحد الأسباب قد يكون ناجمًا عن القراءة الخاطئة للغاية لنوايا إيران في مرحلة ما قبل توقيع الاتفاق والدور المخطط له للبرنامج النووي في مسارها الإستراتيجي في الشرق الأوسط.
لم يكن لدى إيران أي نوايا، قبل أو بعد الصفقة، لا لتغيير سلوكها الإقليمي ولا لتنسيق سياساتها مع الولايات المتحدة. والافتراض بأن نوايا إيران يمكن تعديلها بموجب الاتفاق كان خارجًا تمامًا عن سياق الواقع. كان الافتراض الصحيح هو أن العدوانية الإيرانية سوف تزيد بعد الصفقة.
على أي حال، أنتج هذا الوضع مشكلة لكل من الولايات المتحدة والعرب. بالنسبة للولايات المتحدة، كان ذلك نتيجة للإستراتيجية السابقة للحد من الانخراط في أزمة الشرق الأوسط، وكنتيجة للاتفاق النووي الذي حد من نفوذها الإقليمي إلى مستوى مقلق. كنا قد كتبنا في “ميدل إيست بريفنغ” قبل بضعة أشهر من توقيع الاتفاق أن “الولايات المتحدة تخسر العرب ولا تفوز بولاء الإيرانيين”. أردنا حينها أن نشير إلى انخفاض نفوذ الولايات المتحدة إلى مستويات خطيرة في المنطقة في تلك المرحلة.
ومع ذلك، تم توقيع الاتفاق على أي حال. الصفقة في حد ذاتها قد لا تكون مرفوضة كما قلنا مرارًا وتكرارًا. ومع ذلك، كانت العلاقة بين توقيع الاتفاق وعواقبه من جهة، وإستراتيجية طهران الإقليمية من جهة أخرى هو ما يثير القلق.
لذلك، نتج عن الصفقة سياق زادت إيران إثره من عدوانيتها الإقليمية، وكانت الولايات المتحدة تخفض من نفوذها وتنتظر لفتة من طهران تعرب فيها عن استعدادها للتنسيق مع الولايات المتحدة، شعر العرب بأن حليفهم التقليدي قد تخلى عنهم. كان هذا الوضع محملًا بالمشاكل. فبعد فترة قصيرة، ظهرت مشكلة كبيرة على الأرض: دعوة طهران للرئيس فلاديمير بوتين للتدخل في سوريا، ثم في العراق ربما. كان من الواضح أن جدول الأعمال الإقليمي يجري حاليًا إعداده لإفساح المجال لكل من إيران وروسيا للعب دور ما، وذلك في لحظة قرار طوعي ذاتي من قبل الولايات المتحدة للحد من وجودها في المنطقة.
كانت الصورة بأكملها مثيرة للسخرية. ففي حين تأمل الولايات المتحدة أن الاتفاق النووي سيزيد من نفوذها الإقليمي ويقلل من نفوذ روسيا، كان السيد بوتين، بدعوة من إيران، يتحرك في الاتجاه المعاكس.
بشكل ما، مثّل الاتفاق النووي مفترق طرق في الشرق الأوسط كما تراه كل من الولايات المتحدة وروسيا. ولكن الآن، فإن الولايات المتحدة تعود تدريجيًّا وبحذر إلى الشرق الأوسط. حيث كان الواقع يفكك التفكير الإيجابي والإستراتيجيات المثالية.
مع اتضاح صورة مرحلة ما بعد الاتفاق النووي في الشرق الأوسط تقريبًا الآن، يتم تخصيص منبر لتنسيق عربي أمريكي أقوى. يمكن تلخيص هذا المنبر في كلمتين: احتواء إيران، وميزان القوى، الذي يظهر بشكل ملموس في هذه المرحلة من الوقت في الشرق الأوسط، تدور رحاه في سوريا والعراق. ويلزم ضبط ميزان القوى في سوريا والعراق لتجنيب المنطقة التخريب الإيراني في المستقبل.
وبالنسبة لأولئك الذين يقولون إن إيران لا تفعل شيئًا “تخريبيًّا” في المنطقة، فإننا نسأل ببساطة لماذا تسلل الإيرانيون إلى العراق بعد الغزو الأمريكي، وقتلوا كلًّا من الأمريكيين والعراقيين للتلاعب بالمسرح السياسي لصالحهم؟ وسوف نسأل عن العصابات الإرهابية التي جرى اعتقالها في الكويت والبحرين والسعودية؟ وسوف نسأل عن السفن التي تحمل أسلحة للحوثيين في اليمن التي جرى رصدها واعتراضها قبالة الشواطئ اليمنية. وسنسأل أيضًا عن الحرس الثوري في لبنان وسوريا والبحرين. هذه ليست سياحة، بل عمليات تخريب وإرهاب.
يتم تعريف توازن القوى في المنطقة الآن بالمعركة الجارية في سوريا. فسوريا هي المكان الذي “تختبر” فيه كل من روسيا والولايات المتحدة وإيران والعرب وتركيا قدراتهم لتشكيل الديناميات الإقليمية. كان الوضع قبل حوالي 10-15 سنة مختلفًا. حينها، لم يكن سوى الولايات المتحدة والعرب هم من يشكلون هذه الديناميات. يرجع التغيير أساسًا إلى ثلاثة عوامل. الأول، هو زلزال عام 2011 والتي سبب ضررًا لنظام الأمن الإقليمي بشكل خطير. والثاني هو التقدم الذي حققته إيران في بناء قدرات كل من الحرب غير المتكافئة والقدرات العسكرية. والثالث هو الخفض التدريجي للدور الإقليمي للولايات المتحدة.
في سوريا والعراق، لا بد أن تتعلم إيران أن جسور تعاونها مع المنطقة سيكون عبر التجارة والتنمية والتعاون لبناء مستقبل إقليمي مشترك لجميع دول المنطقة بدلًا من الحرب غير المتكافئة والتخريب والتدخل لإحداث المزيد من الكوارث مثل تلك التي تعاني منها كل من سوريا والعراق.
وفي سوريا والعراق سيتم معايرة موازين النفوذ في الشرق الأوسط. وبالنسبة لأولئك الذين ما زالوا يعتقدون أن إيجاد إيران معتدلة أمر ممكن، نقول لهم ببساطة أن يستعدوا لمزيد من المفاجآت السيئة. لن تتحول إيران إلى قوة أقل عدوانية. بل على العكس من ذلك، ستتحول إلى قوة أكثر عدوانية بعد الاتفاق النووي. وللمساعدة على إعادة تشكيل سياسات إيران الإقليمية، لا بد أن تعلم إيران أن عمليات التخريب ستجلب المتاعب فقط على كل من المؤسسة السياسية والشعب الإيرانيين. للأسف، لا توجد وسيلة أخرى لإقناع الحرس الثوري الإيراني بالتعامل مع الأمور بطريقة مختلفة. في الواقع، إن السلام الإقليمي يتعارض بشكل كامل مع طبيعة و”مبرر” وجود فيلق القدس الذي يقوده السيد سليماني. فإذا كان هناك سلام في المنطقة، فإن العنصر الأكثر نشاطًا في الحرس الثوري لن يكون له فائدة. ما الذي يمكن أن يحفز الحرس الثوري بالضبط إلى السعي خلف تحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة؟ في الواقع، إن مصدر قلق قادته الرئيسي بعد توقيع الاتفاق النووي هو أن طهران قد تكون دفعت نحو لعب دور إقليمي أكثر إيجابية.
يلزم على الولايات المتحدة والدول العربية إعادة بناء إستراتيجياتهم الإقليمية وعلاقات العمل من أجل تعليم الإيرانيين حقيقة واحدة بسيطة، وهي أنهم لا يبدو أنهم يفهمون أن العالم العربي ليس فارسيًّا وأن محاولات جعله فارسيًّا سيكون ثمنها باهظًا.
يجب ألا تقتصر علاقات العمل العربية الأمريكية على صفقات الأسلحة. فهذا سبيل لمزيد من المتاعب. إذا لم تتوقف إيران عن التدخل في المنطقة ودعوة الآخرين إلى التدخل، فإن الأزمة الإقليمية ستكون ثقبًا أسود في النظام العالمي. كان يتعين إبعاد أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى عن الشرق الأوسط. ومن أجل إبعادها، يلزم على إيران أن تفهم ما لم تفهمه بعد. وينبغي مناقشة تدابير واضحة علنًا للتوضيح للإيرانيين أن أفعالهم قد تكلفهم ثمنًا باهظًا. فمن خلال التحدث بصوت عالٍ عن هذا الثمن يمكن للعالم أن يثني الشعب الإيراني عن الاستماع إلى خطاب المتعصبين. إن كلًّا من المجتمع الدولي والشعب الإيراني يضعان الشرق الأوسط في خطر كبير إذا كانا يعتقدان أن البيانات الدبلوماسية الناعمة من قبل طهران وبعض السياسيين ستجدي نفعًا. فما يهم هو الأفعال المتبعة. وتشي الأفعال بالكثير عند رؤية السيد سليماني يجوب المنطقة كما لو أن إيران قد ضمتها بالفعل، وأصبحت جزءًا من حلم “الإمبراطورية الفارسية العظمى” الوهمي.