عندما سقط الشاب ابن السبعة عشر ربيعاً بين يدي رفاقه مضرجاً بدمه في إحدى التظاهرات السلمية في بداية الثورة، وقالوا له: عجّل بنطق الشهادتين قبل أن تلفظ أنفاسك الأخيرة لم يرفع سبابته لنطق الشهادة وإنما عبر بإشارة النصر ثم أسلم روحه.
لم يكن يفهم معنى الديمقراطية، ولم يكن يبحث عن جنة وحور عين، كان يريد الحرية التي طرق بابها بدمه.
في علم اجتماع المعرفة فرضية تقول إن كل الأجوبة على الأسئلة الكبرى إنما تقدم ممكنات حتى في مجال الدين والفلسفة، فضلاً عن السياسة والاقتصاد.
وتظلّ هذ الممكنات في طور الإمكان، ولا تتحوّل إلى واقع حتى يقوم السياق التاريخي الذي يشبه الحوض المائي في الفرضية بفتح سكور لبعضها وإغلاق سكور أمام بعضها الآخر، محوّلاً الأولى إلى وقائع ومبقياً الأخيرة في طور الإمكان.
كان الجواب لدينا كمعارضة سياسية على الاستبداد والظلم والفساد هو الديمقراطية، وكان جواب الثائرين أكثر تحديداً: نريد حريتنا وكرامتنا.
السياق التاريخي فتح سكوره للحرب والفوضى والتشرد في سورية، ولكنّ هذه السكور التي فتحها السياق إنما فتحها بواسطة فاعلين اجتماعيين ذوي إرادات ورغبات.
خمس سنوات من انسداد الأفق أمام التحول المنشود وانفتاحه أمام انكفاء إلى البنى العضوية الضيقة، واحتلال الساحة من قبل التكفيريين، وغضّ النظر من قبل العالم على جرائم الاحتلال الأسدي.
خمس سنوات كافية لتجعلنا ندرك فشلنا في التعاطي مع السياق بشكل يجعله أقرب إلى فتح سكوره لمكننا المأمول، وليس لممكنات أبشع من الواقع الذي ثرنا عليه.
الحدث السوري الهائل بكلّ ما ينطوي عليه من أبعاد تستغرق كل أبعاد الحياة، كاف لجعلنا نحن المناضلين في سبيل الديمقراطية نعترف بعجزنا عن توقع الممكنات الأكثر استعداداً للتحول إلى متعيّنات، وكاف أيضاً للاعتراف بأن أعباءً إيديولوجية لا تزال تثقل كواهلنا وتؤطر مطالبتنا بالديمقراطية.
استطاع السياق وفاعلوه الأكثر قوة أن يدفعونا إلى هامش المشهد، واستطاعوا أن يغطّوا على أصوات المطالبين بالحرية -ومثالهم الأجمل ذاك الشهيد- بأصوات سلاحهم الثقيل، وأن يخنقوها بغازاتهم السامة.
أثبتنا أن أفكارنا متكلفة وأثبت الشباب الذي قدّم إجابته بصيغتها البسيطة أنه يتمثلّها بكل صدق ويقين.
مظاهرات السوريين في الداخل خلال الهدنة أثبتت أن ممكن الحرية والكرامة قد تحول إلى واقع، وأنه أكثر قوة من وقائع فرضها نظام الإجرام وحلفاؤه بقوة السلاح، ومن وقائع أخرى ساهم في صنعها مستغلاً انتهازية العالم ومستثمراً بنى متخلفة كرّسها هو على مدار أربعة عقود.
انبثاق التظاهرات السلمية من رماد الحرب وأنقاض الدمار تقول للعالم كله إن جواب السوريين البسيط على الاستبداد والذي كتبوه بدمائهم منذ انطلاق ثورة الحرية والكرامة هو الممكن الأكثر استعداداً للتحول إلى واقع، وإن وحشية النظام الأسدي، وأوهام حليفه الطائفي، وطموحات حليفه القيصري وقائع لا تقوى على مواجهة ثائر لا يأبه وروحه تنسلّ من جسده لا بوعد الجنة ولا بألم الرصاص الذي يخترق جسده، ولا يتذكر وهو يغادر الحياة إلا إشارة النصر يرفعها في وجه قاتله.
عودة المظاهرات السلمية صفعة للنظام وحلفائه وللعالم الذي ظل يراقب مقتلة السوريين خمس سنوات، وتنبيه للمعارضة الديمقراطية أنّ تهميشها لم يكن بسبب ظروف موضوعية ومؤامرة حيكت ضدها، فقد كانت المؤامرة ضد متظاهري اليوم أكثر إحكاماً وكانت الظروف الموضوعية التي واجهتهم أقوى في مناحرتها لحراكهم، وإنما كان تهميشها أيضاً بسبب قصور فهمها للسياق التاريخي، وضعف تمثلها لشعاراتها وتخندقها في خنادقها الإيديولوجية البالية.
رئيس التحرير