ما يحدث في جنوب سورية بالقُرب من خط وقف النار مع إسرائيل في هضبة الجولان، يُثير أكثر من تساؤل عن طبيعة علاقة التنافر والتجاذب بين نظام الطاغية في الشام وبين إسرائيل الرسمية. وهو مرتبط بطبيعة هذه العلاقة منذ الاحتلال الإسرائيلي للجولان في حزيران (يونيو) 1967. وفي أساس العلاقة دأب النظام السوري بقيادة الأب والابن من آل الأسد على عدم إطلاق رصاصة مقاومة واحدة على الاحتلال الإسرائيلي للجولان، والاكتفاء بجعل أهل الهضبة واللبنانيين وقوداً لـ «مقاومة» على الطريقة الأسدية. لكن القصة لا تبدأ اليوم كما يقول السوريون الذين خبروا بجلدهم «مقاومة» آل الأسد.
القصة بدأت في حزيران 1967. وبدأت قصتي معها حين طُلب إليّ أن أكتب نص فيلم وثائقي عن احتلال الجولان. رأيت مشهد جندي من المغاوير كان مرابطاً في تل الفخار. حكى أن راديو دمشق أعلن سقوط القنيطرة في وقت كانت مُعظم وحدات الجيش السوري في مرابضها، كما قال، على طول وعرض هضبة الجولان. وظلّ سؤاله يطنّ في رأسي حتى صادفته في الجولان المُحتل. عرّفته بنفسي وسألته هل هو المغوار من الفيلم الوثائقي. وأعاد علي القصة التي رُحت أبحث لها عن مصادر. ووجدت أكثر من مصدر يؤكّد أنه بينما كان وزير الصحة السوري في حينه، عبد الرحمن الأكتع، يتفقد القُنيطرة أعلن وزير الدفاع في حينه، حافظ الأسد، سقوط المدينة. ولما عاد الوزير الأكتع إلى دمشق واحتجّ على ما حصل حظي بضربة كرسي من الأسد الأب ـ على ذمة الرواة ـ فارضاً عليه السكوت وعدم إثارة ضجة حول المسألة.
أما القصّة الثانية المرتبطة فهي تصفية ضابطين درزيين كانا مع وحداتهما في منطقتي تل الفرس وتل الفخار. تصدّيا للقوات الإسرائيلية المهاجمة وصدّا الهجمات المتتالية من دون خسائر تُذكر. لكن الأوامر بالانسحاب صعقتهما مع الجنود. وعندما نفّذاها وتراجعا باتجاه جبل الشيخ تمّ تقديمهما لمحاكمة عسكرية ميدانية انتهت بتصفيتهما بتُهمة عصيان الأوامر. وهي قصّة تركت الأسئلة مجمّدة في رؤوس مَن عرفوا بها إلى الآن وخافوا من روايتها أو تقصّي حيثياتها.
قصّتان ترتبطان ارتباطاً وثيقاً بما يحصل اليوم في جنوب سورية، حيث يتمدّد توحّش النظام وحليفه الروسي إلى درعا كمحافظة وناس، من خلال تفاهم تام مع إسرائيل التي تركن إلى وعود الروس بأن لا تتضرر مصالحها. وأهم مصالحها هو البقاء في الجولان كما يؤكّد مراقبون إسرائيليون جزموا بأن إسرائيل الرسمية ـ وعلى لسان أكثر من مسؤول ـ قبلت بإعادة تأهيل النظام وتدوير شرعيته بثمن يدفعه على شكل «نسيان» الجولان تحت سيطرة إسرائيل. وهو اتفاق ضمني أشبه باتفاق التنازل عن لواء الإسكندرون لتركيا وأشبه باتفاق التخلي عن حزب العمال الكردستاني وزعيمه أوجلان. وهو أشبه باتفاق وقف إطلاق النار في الجولان في 1974 الذي أبقى يد إسرائيل حرّة في الجولان مقابل إعادة القنيطرة كخطوة رمزية توحي باستعادة المدينة وإظهار النظام السوري بمظهر مشرّف.
في حزيران 67 تم تسليم الجولان لإسرائيل بيد الأسد الأب ـ وزير الدفاع في حينه ـ مقابل تكريس سؤدده المتنامي في حينه. وفي حزيران 2018 بدأ العمل على تسليم الجولان مرة أخرى لقاء إطلاق حرية النظام والحليف الروسي في التوحّش في محافظة درعا التي أطلقت شرارة المقاومة الحقيقية للنظام في 2011. في إسرائيل، يُعيدون تأهيل النظام الذي لا يعنيهم من قليل أو كثير إلا بمدى ضمانه أو تهديده لأهدافها الإستراتيجية. وما دام يترك الجولان لإسرائيل ومشاريعها، فلماذا لا يبقى النظام هناك في سورية دكتاتورياً أو متوحشاً كما كان. ففي كل حالة من هذه الحالات سيكون مشغولاً على جبهته الداخلية غير قادر على تشكيل تهديد إستراتيجي وجودي لإسرائيل بخاصة بعد 2011، أو تحت رحمة إسرائيل تقتص منه كلما أرادت، وقوّضته إذا شاءت. المهم أنه يؤدي لها خدمات إستراتيجية مهمة، طوعاً وبإرادته أو قسراً وبغير إرادته، تحت ضغط الحاجة إلى البقاء.
من يومها والنظام ككل نظام في حرصه على بقاء سؤدده بالشعارِ وبالقمع، بالسجون وبالبطش في الداخل، وبالتفاهم الفعلي والضمني مع إسرائيل ـ الكيان الصهيوني! ـ وبتحويل إسرائيل إلى المرجعية التي تؤهّله من جديد. وهي تعمل كعرّاب يُنافح علناً أو بالصمت عنه وعن أهليته في العواصم الغربية، بناء على ضمانات روسية بأن لا ينالها من هذا الدور سوى الخير على شكل «بقاء» الجولان في أيديها كما «بقي» لواء الإسكندرون في يد تركيا.
مرزوق الحلبي