يمثّل تصنيف الأفراد بحسب انتمائهم إلى الجماعات شرطًا ضروريًّا وغير كافّ للتَّعصُّب، ولكنَّه يتحوَّل إلى تعصُّب إذا ارتبط ببعد تقييميّ لهذه الجماعة يقع على أحد قطبيه الأقصيين قيمة الخير بكلّ ما يندرج تحتها من صفات، وعلى القطب الآخر القيمة المضادَّة المتمثلة في الشّر وما يندرج تحتها من صفات.
الموروث السُّنّي لا يكتفي بالتَّصنيف، ولكنَّه يفرز بشكل قاطع الـ “نحن” عن الـ “هم” متَّخذًا من القطب الأوَّل موقعًا للمنتمين إلى الطَّائفة السُّنيَّة، ومن القطب المقابل من لا ينتمون إليها، وفي مقدّمتهم من يطلق عليهم في هذا الموروث اسم “النّصيريّة”.
وهو ما يجعل التَّعصب ضدّ الطَّائفة واقعًا مضمرًا في ظروف العجز عن التَّصريح، وحربًا شعواء في ظروف مغايرة.
تلعب الأنا الأعلى (الَّتي تسعى إلى الكمال بحسب المصطلح الفرويديّ) الدَّور الأساسيّ في العنصريَّة الموجَّهة لجماعة يعتقد أنَّها أرفع شأنًا، فينصبّ الحسد على هذه الجماعة وتمنّي زوال المميّزات والقدرات والموارد عنها.
وتستفرد الـ هو (الَّتي تمثّل الغرائز بالمصطلح الفرويديّ) بالسَّاحة عندما تكون العنصريَّة موجّهة إلى جماعة يعتقد أنَّها أدنى شأنًا فيسقط الـ “هو” مفرزاته من ازدراء واحتقار وكراهية تجاهها.
ولأنَّ الأصل في علاقة الأكثريَّة السُّنيَّة بالطَّائفة العلويَّة هو الشُّعور بالأفضليَّة، فقد كان الـ “هو” نافث مشاعر الازدراء، ولكنَّ الأنا لم يكن غائبًا لما سببَّته سيطرة الطَّائفة واستئثارها بالخيرات من مشاعر حسد لها.
اندلاع الثَّورة أوقع النُّخب اللّيبراليَّة العلمانيَّة السُّوريَّة في مأزق فيما خصّ الموقف من الطَّائفة فقد كان المطلوب منها تقديم خطاب سياسيّ غير مشوب بالطَّائفيَّة يطمئن أفراد هذه الطَّائفة من جهة، ويقنع العالم بأنَّ الثَّورة تصبو إلى دولة مدنيَّة لجميع أبنائها من جهة ثانية.
ومن أجل الاستجابة لهذا المطلب، تكرّرت في خطاب المعارضة السُّوريَّة عبارة “الطَّائفة الكريمة”، وهم بصدد وصف الطَّائفة العلويَّة.
هذا النَّعت الملحق بالطَّائفة، والَّذي لا يوصف به غيرها ليس إلاَّ نوعًا من “الفعل التَّعويضيّ” الَّذي يضمر عنصريَّة تجاهها؛ لأنَّ لسان حاله يقول إنّ هذه الطَّائفة ليست منخرطة في نسيج المجتمع، فلا بدّ من معاملتها معاملة خاصَّة. وهو استبطان لهذا المعنى لا يمكن عدم التقاطه من قبل المستهدف به بشكل واع أو غير واع.
وقد يكون عاملاً من العوامل المفسّرة لعدم جدواه، ولذهاب أبناء الطَّائفة -الموالين في أكثرهم-بعيدًا في ارتهانهم للنّظام وفي تنفيذهم لسياساته.
فإذا نظرنا إلى متلقي هذا الخطاب وقارنّا ما يمكن أن يحدثه هذا الوصف من تأثير في موقفه مع ما يستشعره من تهديد سندرك عقم هذا الخطاب وخواءه.
فالطَّائفة تستشعر أنواع التَّهديد المختلفة الَّتي يحدّثنا عنها علم النَّفس السّياسيّ:
التَّهديد الرَّمزيُّ لوجود افتراق صريح واضح بين معتقداتها وبين معتقدات الأكثريَّة السُّنيَّة كفيل بخلق الكراهية، وبالشُّعور بخطر تمثّله الجماعة الحاملة لمنظومة قيم ومعتقدات مغايرة؛ لما يحمله هذا التَّغاير من تهديد بنسف الاطمئنان الَّذي يسبّبه الرُّكون إلى معتقدات البيئة والمجتمع.
التَّهديد بزوال القوَّة والموارد الَّذي تستشعره الطَّائفة إذا زال نظام الأسد على يد الثَّائرين ضدَّه وهو النّظام الَّذي نقل الطَّائفة وأبناءها من حال إلى حال، وخصوصًا العاملين لديه في السّلكين العسكري والأمنيّ.
والتَّهديد للهويَّة الاجتماعيَّة المسبّب عن إهانات علنيَّة واتّهامات لأبناء الطَّائفة بالتَّهتك الأخلاقيّ والكفر، وهي اتّهامات لطالما كان يعلن عنها بصوت مسموع في السَّابق، ويتناجى بها الكثيرون سرًّا في ظلّ سطوة الخوف وطغيان الصَّمت على الكلام.
البعد السّيكولوجي المتمثّل في الخوف من تهديد الجماعة الأخرى لا يعالج بتكرار وصف الطَّائفة بـ “الكريمة” الَّذي لا يعدو كونه محاولة قاصرة تفعل مفعولاً عكسيًّا لدى المستهدف بالخطاب.
قصور الخطاب ومفاعيله العكسيَّة سبّبتا ملء الفراغ بخطاب صريح في عنصريته لا يعاني من تنازع بين إسقاطات الأنا الأعلى والـ “هو” لأنَّه مستفرد به -بحكم دوغمائيته- من قبل مفرزات الاحتقار للطَّائفة وهي مفرزات الـ “هو”، فصرت تسمع فتاوى من دعاة يفترض أنَّهم أقلُّ تشدُّدًا تصرّح بكفر الطَّائفة ومروقها، هذا فضلاً عن خطاب أكثر عنفًا تتبنَّاه التَّنظيمات المتطرّفة والَّتي لا ترى في هذه الطَّائفة إلاَّ رجسًا لا يكفي تجنّبه وإنَّما يجب التَّخلّص منه.
لا شكَّ أنَّ جرائم النّظام جرائم لا تكفي كلمة “بشعة” لوصفها ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال تبريرها، ولا يجوز أن تمرّ دون عقاب، ولا ريب أنَّ منفذيها من أبناء الطَّائفة العلويَّة تجب محاكمتهم محاكمة عادلة، ولكنّ ما لا ريب فيه أيضًا أنَّ خطاب المعارضة لم يفشل في تهدئة روع الخائفين والمهدّدين فحسب، وإنَّما ساهم أيضًا في تفاقم عدائيتهم، وفي جعل تعصبهم يتجسّد في اندفاع أهوج إلى الأمام دفاعًا عن وجود يقول خصومهم صراحة أو مداورة إنَّه وجود فائض عن الحاجة.
ما لم تصغ المعارضة خطابًا يأخذ باعتباره سيرورة تاريخيَّة أوصلت العلاقة بين الأكثريَّة السُّنيَّة والأقليَّة العلوية إلى هذا الحد من الاستقطاب المقترن بمكوّن وجداني قوامه الكراهية في أقصى تطرفه وقلة الاحترام في حال اعتداله، وبتمييز عنيف في حده الأقصى، وتمييز فاتر في حالته الطبيعية، فإنها ستكون مسؤولة مسؤولية تاريخية عن كل ما يرشح عن هذه العلاقة المعتلة من صدام وانتهاكات وجرائم.
“موقع الأوان”