أكرم البني
يمكن القول مجازاً، إن الأحلام انطفأت لدى الشعب السوري، وغابت عنه تلك الأمنيات والرغبات الطيبة التي تأمل كل شعوب المعمورة تحققها في العام الجديد، أمام شيوع قلق وخوف شديدين، من أن يحمل الزمن الآتي، كما كان الحال في السنوات المنصرمة، مزيداً من التردي والمعاناة والألم.
والبداية من مخاوف جدية تعتمل في نفوس غالبية السوريين، وتتنامى مع كل يوم يمر، على مصير وطن يحملون اسمه ويعتزون بالانتماء إليه، ما داموا عاجزين عن وقف انزلاقه من بين أصابعهم نحو الضياع، وتالياً نحو التفكك إلى مناطق نفوذ تحكمها تدخلات عسكرية خارجية لا يهمها مصير السوريين واجتماعهم الوطني، بقدر ما يهمها حماية مصالحها وجعل البلاد ميداناً لتصفية حساباتها وتحسين فرص نفوذها.
ألا يشكل اليوم مصدر خوف وقلق عميقين لدى السوريين، حين يرون كيف يتسارع التداعي والتهتك في بنية دولتهم، ويتكرس خضوع السلطة وارتهانها الذليل لمن استجارت بهم من قوى أجنبية؟ أو حين يلمسون كيف تسعّر حكومتا طهران وأنقرة الاستفزازات الطائفية وتشحن العصبيات والغرائز لتثبيت اصطفافات وتخندقات تمكنهما من الاستئثار بمزيد من الأراضي السورية ووضع فكرة تقسيم البلاد البغيضة موضع التنفيذ، تحدوهما مساعٍ حثيثة لتكريس نمط حياة اقتصادي واجتماعي يشبههما في مناطق سيطرتهما، سواء أكان في شمال وشرق البلاد حيث تتمركز القوات التركية والكتائب التابعة لها، أو في العاصمة دمشق وأريافها ومحافظتي درعا والسويداء حيث تتمدد أذرع إيران وميليشياتها؟
واستدراكاً، ألا يزيد هلعَ السوريين ويخنق أبسط تطلعاتهم نحو الخلاص، استمرارُ وقائع وتوازنات تعزز استعصاء أزمتهم، في ظل عجز المجتمع الدولي ومنظمته الأممية عن تحقيق أي اختراق لتفعيل خطة الحل السياسي، وفي ظل تقدم أدوار لمراكز قوى إقليمية ومحلية من النظام والمعارضة على السواء، لا مصلحة لها بتخميد الصراع، بل يهمها استمرار مناخ الحرب للحفاظ على امتيازاتها ومصادر ثرواتها؟ ثم لمَ لا تثار مخاوف السوريين من وصول رئيس جديد للبيت الأبيض يرجح أن تفتح سياسته تجاه المنطقة الأبواب على تفعيل حدة التنافس والخلاف بين الأطراف المؤثرة في الصراع السوري، وعلى انكشاف التنازع بين روسيا وأميركا على الحصص والمغانم؟ بل لمَ لا يهلعون مما قد تفعله إيران وتستبيحه للحفاظ على نفوذها في سوريا ومواجهة تنامي الرغبة العالمية في محاصرتها وإخراجها من البلاد؟ أو حين تنعكس الخلافات بين حسابات موسكو ومطامع أنقرة بمعارك عسكرية، ربما لا تزال محدودة، لكنها مرشحة للاتساع وتنذر بنقض التوافقات المبرمة بينهما في الآستانة وسوتشي، وباحتمال تأجج الصـراع الدمـوي من جديد، وعودة العنف المنفلت وما يخلفه من ضحايا وخراب ومشردين؟!
يبقى الخوف المباشر والأعم الذي يداهم السوريين على مشارف العام الجديد، هو خوفهم مما قد تخلفه تداعيات التدهور الاقتصادي الشامل في البلاد، محفوفة بفشل جميع الأطراف المتصارعة، السلطة والمعارضة والقوات الكردية، في إدارة مجتمعاتها وتوفير أبسط مستلزمات العيش، ولا تكفي هنا الإشارة إلى ملايين السوريين ممن خسروا بيوتهم وممتلكاتهم نتيجة القصف والتدمير، وباتوا في حالة عوز شديد، ومثلهم من فقدوا أعمالهم ولا يجدون فرصة لتأمين دخل مادي يقيهم وعائلاتهم الجوع والحرمان، فالأمر قد طال غالبية العاملين في الدولة الذين باتوا يلهثون بلا جدوى وراء لقمة العيش مع الارتفاع الجنوني للأسعار والتراجع الكبير لقيمة الليرة السورية، زاد الطين بلة ما خلّفه العنف المفرط من دمار في البنية التحتية وتراجع دور وأداء كثير من المؤسسات الخدمية والصحية والتعليمية، وليس أدل على ذلك سوى ملايين الأطفال الذين لم تتوفر لهم فرصة الالتحاق بالمدارس، ثم شدة ما يكابده السوريون للحصول على الكهرباء ووقود النقل والتدفئة، وأيضاً تلك الطريقة المؤلمة التي تعاملت بها مختلف الأطراف المتصارعة مع جائحة كورونا وعنوانها الاستهتار بأرواح البشر واسترخاص حيواتهم، فكيف الحال مع تنامي خوف السوريين من سطوة الأجهزة الأمنية على حياتهم ومقدراتهم، وقد بات لها أذرع غامضة يمكنها أن تفعل ما تشاء بالمواطن من دون أن تخضع لأي مساءلة أو محاسبة؟! وكيف الحال مع ازدياد رعب السوريين ممن تحكمهم فصائل إسلاموية جهادية، أصابها العمى الآيديولوجي وتواجه قتلاً وتكفيراً كل من يخالف ما تعتقده، ساعية إلى فرض نمط حياتها وما تحلله وتحرمه على البشر من دون احترام لخيارتهم الإنسانية؟!
وإلى المشهد، ينضم النازحون واللاجئون السوريون، الذين بدأ الخوف يتآكلهم، ليس فقط من عوامل الطبيعة ببردها وقيظها، أو من تراجع المعونات الأممية وتردي شروط حياتهم، وإنما أيضاً من تغير موقف مجتمعات الاغتراب منهم، جراء ضغط كثرتهم عليها وما حصل من تعديات «داعشية» فيها، وتالياً من صعوبة بحثهم عن حلول كريمة للاستمرار في العيش هناك، وتحمل ظواهر التمييز والإذلال.
والحال، بغضّ النظر عن الأسباب، مجتمعة أو منفردة، التي أوصلت السوريين إلى هذه المحنة المروعة، إن كانت تعود لتعنت نظام لم يكن يهمه سوى البقاء في السلطة، فاستجرّ مختلف أشكال الدعم الخارجي، وتوسل أشنع وسائل الفتك والتنكيل لسحق شعب طالب بحقوقه البسيطة المشروعة، أم تعود لحضور جماعات جهادية ديدنها التعصب والإرهاب، ولغياب بديل سياسي يحوز ثقة المجتمع، ربطاً بضعف المعارضة السورية وارتهانها لضغوط جماعات الإسلام السياسي وإملاءات الخارج، أم تعود لسلبية المجتمع الدولي وعجزه عن التدخل، طيلة سنوات، لوقف العنف وحماية المدنيين وفرض المعالجة السياسية، فإن النتيجة واحدة، وهي تنذر بالضياع وبما نشهده من تنامي مخاوف الشعب السوري أمام حقيقة أن كل شيء يتراجع في وطنه نحو الأسوأ والأكثر إيلاماً، استقلاله وهويته الوطنية، وحدة المجتمع ومؤسسات الدولة والاحتقانات القومية والطائفية والأهلية، الأمن وشروط الحياة، الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وشدة ما يكابده الناس، وأيضاً طريق خلاصهم.
تحت وطأة تلك المخاوف، يصح تفسير المشاركة الواسعة للسوريين، على اختلاف اصطفافاتهم، وبغياب التمثيل السلطوي، في وداع المبدع، حاتم علي… كأنهم كانوا ينتظرون مناسبة للتعبير عن شدة حزنهم وتفجعهم على ما صارت إليه أحوالهم… وكأنهم توخوا «ردح» مأساتهم حين ردد المشيعون في موكب الجنازة، وبصورة عفوية، مقدمة الشارة الغنائية من مسلسله «أحلام كبيرة»؛ كل شيء ضاق… ضاق حتى ضاع!