يأبى النظام السوري إلا أن يثبت فواته التاريخي ليس بالإجرام الذي يمارسه فحسب، وإنما باللغة التي يستخدمها مؤيدوه، وهو ما يؤكد أن البنية الاستبدادية لا يرشح منها إلا أفعال تكرس ماهيتها، وتتفاعل معها تفاعلًا جدليًا يدفع بها إلى مراحل أكثر رسوخًا في وحشيتها وإجرامها.
قبل الثورة السورية عوّد النظام السوري المواطنين –إذا استخدمنا المصطلح مجازيًا- على مبلغ صغير يصرف لهم بعد المرتب، وفي أوقات المناسبات أطلق عليه اسم “المنحة”، وقد حيّرت هذه المنحة العاملين في الشأن الاقتصادي، ولم يفهموا تحت أي بند يمكن أن توضع، فهي اختراع لا سابق له في تعامل الحكومات مع العاملين في السلك الحكومي.
ولكنها كانت باسمها، وبتشويق من ينتظرونها نوعًا من أنواع الإذلال المقصود، فهي مكرمة يمنحها مالك المزرعة التي استحالت إليها سورية لمن يعدهم عاملين فيها بالأجرة، وعلى هؤلاء الأجراء أن يسبّحوا بحمد الإقطاعي الكبير؛ لأنه بذل لهم هذا الفتات لكي يكمّلوا به معيشتهم.
وقد بلغ الإفراط في مسخ معنى علاقة النظام بالمواطنين حدًا جعل هدية المناسبات هذه تحاكي “خرجية” العيد التي يمنحها الأب لابنه، وهي ممارسة يائسة استخدمها الوريث المصنوع لكي يتحول إلى أب صانع يحذو حذو من ورّثه.
ولما كان الأب الذي يريد أن يكونه المستبد لا يكون أبًا بمنحة مالية تافهة، ولا بلافتات تصفه بهذه الصفة تُعلّق أنى نظر الناظر في سورية، وإنما يحتاج إلى خصائص أخرى لا يمتلكها تصيره أبًا، فإن ما يتبقى للإقطاعي الكبير لكي يتخذ صورة الأب هو ممارسته الذكورية التي يغتصب بها السوح التي احتلها بالقوة.
وهي سوح فكرية وقيمية و تاريخية وجغرافية، ولا تلبث عملية الاغتصاب التي تحتمها الشخصية الخالية من أي قابلية للارتقاء إلى مصاف البشر الطبيعيين أن تذهب بعيدًا في حيوانيتها عندما ترفض الضحية الاستسلام لغريزته.
فتمعن دوسًا وحطمًا لكل ما يصل إليها مبلغ قوتها في الجسد الذي يرفض الانصياع.
ولأن النصر المتوهم الذي تحققه هذه الشخصية المشوهة بالقوة المفرطة لا يزيدها إلا وهمًا وتشبثًا بصفتها الذكورية تلك، فإنها تصر على إنطاق من تمردوا بلغة لا تفهم غيرها.
وتبحث عن تسكين لقلقها جراء تمرد ضحيتها عن طريق إجبارها على أن تنظر إليها كأب يحدب عليها، وإن كان حدبًا مقرونًا بزرع أنيابها في جسدها.
ولما كان هذان الأمران لا يترادفان، ومن المستحيل أن يتماكنا في حيز وجدان الإنسان السوي، فقد كان رفض الطفلة الخارجة من جحيم الغوطة أن تقول إنها ابنة بشار الأسد رفض إنسان طبيعي وعفوي للجمع بين نقيضين، وتعبيرًا بالغ الشفافية عن عدم قبول ما لايقبله الحسّ السليم والبداهة العقلية.
قد تكون الغلبة قد تحققت للأب القاتل في هذه اللحظة، وربما لا يبدو في الأفق غير سيناريو عودة المستبد إلى عرشه مطمئنًا أكثر مما كان، ولكنه بما ينوء بحمله من تشوهات، وما يعتمل في نفسه من نوازع انتقام سيظل يحرّض الجيل الذي مثلته الطفلة البطلة برفض أبوته المصطنعة على قض مضجعه، وسيظل يكتب دون أن يدري نهاية أسطورته، ويحفر بممارسته ولغته المغرقتين في الهمجية قبره الذي سيكون المساحة الصغيرة الحقيرة القادرة على احتواء كلّ ما يصب عليها من لعنات.
رئيس التحرير