زياد ماجد
يخيّم الموت على إدلب منذ أشهر طويلة. يقذفه على الناس وحوشٌ في براميل وصواريخ وحممٍ نارية. ينهمر من الغيم على بيوتٍ ومدارس ومستشفيات. يقطّع أوصال أطفال ومسعفين، ويصيب ملاعب ومخابز ومخابئ، ويحوّل مدناً وبلدات إلى ركام ودخان.
يغدر الموت في إدلب بالناس كل يوم. يسابق خبزهم في الصباح الباكر، ثم يأتيهم في الظهيرة ويحوم فوق مخادعهم إن ناموا. يطوي بثقله بيوتاً ويسحق أهلها وذكرياتهم تحت حطامها المهول.
يطرد الموت في إدلب الأحياء من ديارهم، من أعمارهم وبقايا آمالهم. يُحيل وجوههم إلى خرائط للدموع والمآسي، ويملأ طرقات يوميّاتهم السابقة بأرتال من السيارات والآليات المحمّلة بظلالهم وبعض حاجيّاتهم والكثير من الغبار.
يخيّم الموت على إدلب ولا يفاجئنا أمره. لا تثير فينا فظائعه وعذاباته واستهدافاته أسئلة وذهولاً يُفترض أن تثيره في البشر العاديّين. لم يعد صقيعه الذي نراه على شفاه الفتاة المزرقّة وفي عينيها المحدّقتين بالفراغ يبعث على التساؤل عن كيف يمكن لذلك أن يحدث وأن يستمرّ لأشهر، لسنوات… كأن كلّ ما نشهده كان متوقّعاً. كنا ندرك سلفاً حصوله ونحاول تأجيل إشعال الكمبيوتر كي لا نُتيح بثّاً حيّاً يجعله إيقاع يوميّاتنا من جديد. فقد عشناه في حلب، وفي حمص، وفي الغوطتين، وفي اليرموك ودرعا والزبداني ومضايا، وفي المناطق المتناثرة والمنسية على ضفاف الفرات.
ثم نحاول الكتابة. نحاول تعويض الصراخ بالطباعة على “كيبورد” وبتقريع العجز الذي يرافقنا منذ سنوات.
ثم نحاول الكتابة. نحاول تعويض الصراخ بالطباعة على “كيبورد” وبتقريع العجز الذي يرافقنا منذ سنوات.
كأننا أمام واجب. أن نكتب على الأقلّ مرّة عن إدلب وعن انطفاء ناسها. أن نقول إننا لم نتعب. أن نتابع تطوّرات الميدان ونبحث في الخرائط، التي لا عرقَ نساء يقطفنَ الزيتون فيها ولا وقع أقدام أولاد يسابقون الكرة، عن مسار طريق “M5” و “M4” وعن رقع الانتشار العسكري الحمراء والخضراء المتبدّلة شرقاً وغربا. أن نُجيب بين مقطع وآخر عن أسئلة هاتفية يطرحها متذاكٍ “لا يكتفي بظواهر الأمور” بل يحلّل في شؤون “فتح الشام” و”اتفاق سوشي” و”ديناميات العلاقة المتوتّرة بين تركيا وروسيا” و”أشكال الانخراط الإيراني في القتال بعد قاسم سليماني”.
لكن إن كتبنا فعلياً، فماذا نقول اليوم عن إدلب؟ ومن نخاطب؟ رأياً عاماً قد توقظ حميّته أصابع أطفال ترتجف من البرد والفزع أو جثث إضافية تُدفن في مقبرة جماعية اسمها سوريا؟ أم مسؤولين ما زالوا يدعون لضبط النفس وتهدئة الأمور وتجنيب المدنيين أهوال القتال والتفاوض على دستور وحلّ سياسي؟ أم تافهين ومنافقين يتساءلون عن المؤامرات والمكائد ولا يرون الموت المحلّق فوق البشر الهائمين وغدر طائراته وأَعلامَها وشعاراتها القميئة؟
أم نكتب لنشدّ أزر أصحابنا ممّن “كأنّ على رؤوسهم الطير” مثلنا؟ أم ليقرأنا يوماً مشرّدون أضناهم الجوع وأطفال ظنّوا الحياة كلّها هرباً من السماء، فيقولوا إننا ذكرناهم خلال تيههم وعرضنا كلماتنا وصورهم في صحف ومجلّات؟
ما الذي يمكن قوله عن سوريا ولم يُقل بعدُ خلال السنوات التسع الماضية؟ عن القتل والقتَلة، وعن الكيماوي والاغتصاب والتعذيب والتهام الجثث والتعفيش والتهجير ومصادرة الأراضي، وعن جدوى العالم وسقوط “المجتمع الدولي” وعن الإعدام الوحشي للضحايا الذين أرادوا حياة عادية ينظرون فيها إلى أعلى فلا يرون إلا الغيم والطيور والنجوم؟ وعن المقاومة والأطباء والمدرّسات والمقاتلين والمصوّرين واللاجئات العاملات في مخيّمات متناثرة؟ أو عن ضحكة تلك الطفلة الجميلة التي يُبعد والدها الخوف عنها محوّلاً أصوات الانفجارات إلى لحظات مرح وحياة؟
لكن ماذا لو أنهينا الكتابة وأطفأنا الأنوار، وسقطت القذائف التالية على الطفلة الضاحكة ووالدها؟ أو على الأولاد في الغرفة المجاورة لهما؟ هل كان أمر ما ليتغيّر؟ وهل كانت سوريا لتبقى مطحنة الضحكات والغصّات والتقارير والمقالات التي تتراطم وتتوالى ويبتلعها موت لا يشبع؟
مع ذلك، ترانا نكتب. ربما لسببين أو ثلاثة. مسحاً لعار شخصي، أو بالأحرى تأكيداً له. عار العجز عن فعل شيء آخر غير المثابرة على التحديق في فجيعة نلملم بعد كلٍّ من حلقاتها أنفسنا، فنغسل عيوننا من أشلاء ضحاياها، لنكمل أيامنا ونطوي إلى حين غضبنا وقهرنا وحقدنا.
نكتب أيضاً انتصاراً لسردية ناس نراهم من بعيد وقد فاضت دموعهم ودماؤهم وأحزانهم عن أرواحهم بصمت، ويحاول أنذال تمزيق صورهم وخنق نظراتهم ودفنها تحت اعتبارات “علاقات دولية” و”مصالح” و”جهاديين” و”خوف من لاجئين”.
ونكتب أخيراً كي لا تكون حصانة المجرمين المعروفين بلا شهود. بلا مسائلين لها وللصامتين عليها أو المتواطئين معها. ففي كراهية هؤلاء واحتقارهم ما يعيننا على الأرجح على الاستمرار…
في أواخر العام 2012، وبعد معركة تحرير مدرسة المشاة في حلب من عصابات النظام الأسدي، قال قائد المعركة الظافرة العقيد الشهيد يوسف الجادر أبو فرات إنه حزين. حزين على القتلى من الطرفين وعلى الدبابات المحروقة والعتاد المدمّر. وأردف تساؤلاً بدا ساذجاً، لكنه كان في الواقع التلخيص الأبلغ والأصدق للمأساة السورية يومها: “بتتمسّك بالكرسي يا إبن الحرام؟ بتتمسّك بالكرسي، ليش؟”.
ليس ما يجري منذ ذلك التساؤل وحتى الآن أكثر تعقيداً من الجواب المباشر عنه، رغم تضاعف الأهوال وتزايد الأوغاد ورقصهم فوق القبور.
- كاتب وأكاديمي لبناني