لا جدال في أن مطلب إسقاط النظام السوري، وتالياً التحرر من الاستبداد، هو الأكثر شرعية وعدالة بين مطالب المعارضة السورية، سيما أنه المطلب الأساس الذي اندلعت من أجله ثورة السوريين، الذين دفعوا الأثمان الباهظة في سبيله. بيد أن الإقرار بهذه الحقيقة، بالنسبة للمعارضين، لا يعفي من طرح التساؤل عن الكيفية التي يمكن من خلالها إسقاط هذا النظام، أي البني وأشكال العمل والخطابات، وتالياً موازين القوى، والمعطيات الإقليمية والدولية الملازمة لتحقيق هذه النقلة التاريخية.
ما يفترض إدراكه أن طرح أي قضية، مهما كانت مشروعيتها وعدالتها، يحتاج إلى عوامل أخرى لتحقيقها، لأنها من دون ذلك ستبقى في حيّز الرغبات، أو ستبدو كإنشاءات خطابية فقط. أيضاً يفترض الانتباه إلى أن التجارب التاريخية أثبتت أن الثورات قد تنتصر وقد تنهزم، وقد تنتصر جزئياً، كما يمكن أن تضمر، أو تنحرف، أو تتوقف عند نقطة ما، وذلك تبعاً لطريقة إدارتها، وقوة زخمها، والعوامل المواتية لها، بمعنى أنه لا يجوز التعامل مع الظواهر الاجتماعية والسياسية بنوع من الحتميات.
علــــى ذلك يحتــار المرء في أوضاع المعارضة، والحديث يتعلق بالقوى السائدة فيها (السياسية والعسكرية والمدنية)، إذ أنها كما يبدو لا تشتغل وفق إدراكات معينة، ولا بناء على استراتيجية واضحة، ولا حتى بالاستفادة من أي تجربة تاريخية، لا في ما يتعلق بتطوير أوضاعها، بإقامة نوع من جبهة وطنية، أو كيان سياسي جامع، كإطار يوحد هذه الكيانات، التي يعمل كل واحد منها، من دون صلة بالأخر، إذ السياسي لا صلة له بالعسكري وهذان الاثنان لا صلة لهما بالمدني، وهكذا. ويشمل ذلك الوضع بين الكيانات السياسية والمدنية التي تشتغل إزاء بعضها بطريقة تنافسية وتخاصمية، والأمر ذاته ينطبق على الكيانات العسكرية للمعارضة، بل إن هذه وصلت إلى حد الاقتتال في الصراع على المكانة والنفوذ والموارد، في ما يعرف بالمناطق المحررة.
لا يتوقّف الأمر هنا، إذ المعارضة لم تدرك تماماً أن الثورة التي حرمت من بعدها الشعبي، بحكم تشريد ملايين السوريين، وفرض الحصار على البيئات الشعبية التي تعتبر حاضنة للثورة، بسبب انتهاج النظام للحل الأمني، وحصر الصراع في بعده العسكري، وتالياً بسبب عسكرة الثورة الناجم عن المداخلات والتوظيفات الخارجية المضرة، هي في حاجة إلى أوسع وأمتن صلات مع مجتمعات السوريين في الداخل والخارج، وإلى إقامة الإطارات التي تتوسط بين كيانات المعارضة وهذه المجتمعات، الأمر الذي لم تفعله المعارضة السائدة في غمرة انشغالها بفرض مكانتها القيادية، كما بحكم سعيها لتعزيز مكانتها لدى الدول الداعمة، وارتهانها لها، ولو على حساب مصالح شعبها.
الأمـــر يتعلـــق، أيضاً، بأن هذه المعارضة لم تشتغل على ضوء إمكانيـــات شعبها، الظاهرة والمضمرة، ولا وفق نفس طويل، ولا وفق الارتقاء المتدرّج في أشكال الصراع، فكانت، على الأرجح، مشبّعة بوهمـــين، أو كانت تشتغل وفقاً لمراهنتين: فمن جهة ثمــة وهـــم إسقاط النظام بالعمل المسلح وحده، وبطريقة سريعة، من دون أن تحسب إمكانياتها، ومع عدم توفر الاسناد اللازم، والأهم من هذين ضعف تأهيلها وهشاشة بناها. ومن جهة أخرى، المراهنة على تدخل خارجي، أقله بتوفير منطقة آمنة أو تحييد سلاح الطيران، وتجنيب السوريين القصف الوحشي والمدمر.
اللافت أن المعارضة لم تعمل شيئاً فيما بعد، مع التقدير لكل الجهود والتضحيات الفردية، إذ على رغم التخبّط والاضطراب والتشرذم في إدارة الصراع العسكري، الذي أودى إلى كوارث، تبعا للطريقة التي تم اعتمادها، وبالتالي أدى إلى خدمة النظام، ورغم تبين أن ثمة قوى دولية وإقليمية (روسيا وإيران) تقوم بكل ما من شأنه حماية النظام، مقابل أن “أصدقاء الثورة السورية” لا يفعلون شيئاً مناسباً، خارج معادلة الحفاظ على مستوى معين من الصراع، ما يفيد بمزيد من مآسي الشعب السوري، وتعويم النظام، واستنزاف السوريين ومعارضتهم، بشريا، وسياسياً ومعنويا.
الغريب اليوم أن هذه المعارضة، التي لم تقم بما يلزم للحفاظ على سلامة مسارات الثورة، والدفاع عن مقاصدها المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، لا سيما إزاء الخطابات الضيقة والطائفية، ولا حتى على مستوى النقد، ما زالت على ذات الطريقة، وكأنها تريد للأخرين أن يقوموا عنها بما لم تقم به، أو تريد منهم أن يسقطوا النظام بدلاً عنها، وأن يقدموا لها ذلك على طبق من فضةّ، مهما كان رأيهم بها، أو ملاحظاتهم عليها، وعلى رغم قصور تمثيلها، وافتقادها رؤيا جامعة لسورية المستقبل.
هكذا لا توجد أية ميّزة لأي معارضة تدعي نظرياً إنها متمسكة بإسقاط النظام، فهذا على أهميته، هو ما طالب به منذ آذار (مارس) 2011 معظم السوريين، الذين اكتشفوا أن بإمكانهم استرداد إرادتهم الحرة، والذين خرجوا إلى الشوارع من دون أي سلاح، في مواجهة هراوات الشبيحة، ورصاص أجهزة الأمن، ودبابات النظام. والقصد أن على المعارضة، بافتراض أنها قيادة، أن تقدم شيئاً أكثر من مجرد مطلب، أي مطلوب منها أن تبين لشعبها الكيفية التي ستسقط فيها النظام، وبأية قوى وإمكانيات وتحالفات واقعية لا وهمية.
فمطلوب منها أن توضح ماهي استراتيجية لإسقاط النظام، ثم إذا كان يمكنها أن تسقط النظام فلماذا لم تستطع، أو ماذا تنتظر؟ وإذا كان لا يمكنها ذلك فما هي الأسباب؟ وما العمل؟ وهل يمكن طرح بدائل أخرى شرط أن توصل إلى الهدف المنشود، علماً أن القصة لا تتوقف على إسقاط نظام الأسد، وإنما تتطلب أيضاً الانتهاء من نظام الاستبداد والفساد؟ وأخيراً فإذا كانت المعارضة معنيّة بأن تستعيد ثقة معظم السوريين، فإن عليها أن تقدم لهم رؤيتها لسورية المستقبل، سورية ما بعد نظام الأسد، أي سورية التي لكل السوريين، الأحرار والمواطنين والمتساوين، لأنه من دون ذلك ستبقى هذه معارضة نظرية وعقيمة، ولن تفيد سوى في تعويم نظام الأسد، الذي تقول ليلاً نهاراً إنها تريد إسقاطه، بينما لا تفعل ما يؤدي لذلك.
الحياة