إذا كان الإرهاب في إحدى تفسيراته انفجارًا لمنظومة القيم التي لم تعد قابلة للصرف بسبب جمودها، واستحالتها ثوبًا باليًا، وإذا كان تجديد المنظومة يحتاج زمنًا متطاولًا، تستنزف فيه جهود جبارة، فإن الظرف الاستثنائي الذي ينذر بضياع الوطن وتفتته لا يطيق انتظار إنجاز هذا التجديد، خصوصًا وأن زمن هيمنة الصورة لا يتطلب تطويرًا للمفاهيم فحسب، وإنما أدوات تناسب متغيرات هذا العصر، وهو ما لا نحوزه إلا على شكل مستهلكين.
وإذا كان التقسيم قد بات احتمالًا أكثر من راجح في ظلّ احتكار الروس للساحة السياسية في سورية، وهم على ما يبدو يجدون في التقسيم بلَبوس الفيدرالية بديلًا معقولًا، وفي ظلّ عدم ممانعة الأمريكي هذا البديل، وخصوصًا أن الحليف المؤقت الكردي للإدارة الأمريكية هو الحليف الأكثر رسوخًا في الأرض، والحليف الاستراتيجي الإسرائيلي شغوف بهذا البديل، فإن الظرف الاستثنائي الذي سيحيل سورية إلى شكل آخر مختلف جذريًا عن شكلها الذي نعرفه، يتطلب تجديدًا للخطاب الوطني المستهلك ذي المفردات غير المطابقة بسبب قصورها وتخلفها عن مجاراة الأحداث المتسارعة، والذي أصبح بدوره منظومة قابلة أيضًا للانفجار، وتوليد صور أخرى للإرهاب غير الإرهاب الدينيّ.
ولما كان تجديد هذا الخطاب يحتاج كسابقه زمنًا لا تتيح الظروف التمتع برفاهية استنفاده، فإن هذا الخطاب لن يكون قادرًا على اجتراح حلول لمعالجة الكارثة التي تذرّ بقرنها.
ولما كان خطاب الديمقراطية قد أصبح بدوره خطاب متفكهين، أو نخبة لا ظل لها في الشارع، لأنه لم يتجذر في الأرض لأسباب كثيرة ليس آخرها عدم تمثل أغلبية متبنّيه قيم الديمقراطية، وحاجته إلى زمن متطاول لكي يصبح خطابًا قابلًا للتحول إلى جزء من ثقافة مجتمعية متغلغلة في العقل والوجدان الجمعيين، وقابليته بدوره للانفجار -بسبب مفارقته للواقع- والتذرر إلى إيديولوجيات متحاربة، فإن الظرف الاستثنائي الذي ينذر بالوقوع تحت نير استبداد جديد لا يتيح الوقت لبلورته، وجعله خطابًا قادرًا على الوقوف في موقع النديّ لخطابات منافسة، فإنه ليس بديلًا قادرًا على مواجهة البديل الأكثر قابلية للتحول إلى واقع، وهو بديل القضاء على الحاضن الأكثريّ بما يمثله من عمق حضاري، وبديل تفريخ أشكال متنوعة للإرهاب.
إن استنفار البعد العروبي بصورته الخام غير الملوثة بعفن الشوفينية والإقصائية والعنصرية البعثية والناصرية، في مواجهة المحتلّين الروسي و الإيراني، وفي الاستعداد لمواجهة عواقب الانتهازية الأمريكية والأوربية، ربما يكون الممكن الوحيد المتبقي، لأنه دافع اضطراري نفسي عميق لدى أغلبية السوريين، وهو إطار لا يدفع دينهم خارج حدوده لارتباطه العضوي به، ولا يمكن إنكار قدرته على تأليف المتفرق، وتجميع المتشتت، ولا يصلح لدحض نجاعته التخوف من استحالته دافعًا عنصريًا في مواجهة عنصريات أخرى، لأنه ليس دافعًا مقتصرًا على شعور كغيره، وإنما هو منظومة ثقافية وحضارية يصلح استثمارها لاستصراخ المنضوين تحتها لمواجهة الخطر الوشيك.
يتحرك أعداء سورية الواحدة كلهم بتحريض من شعورهم القومي، ونظن أن بعدنا العروبي الذي اضمحلّ بسبب ابتذال الاستبداد الأسدي له هو البعد الذي نحتاج إلى تقويته واستثماره، فهو الأقل تطلبًا للزمن، والأحق بالاعتراف بأهميته وقدرته على مواجهة الخطرالمحدق.
رئيس التحرير