كلمة ابن العم رياض الترك
في اللقاء التكريمي له من تنسيقية باريس
في 2 ديسمبر 2018
أود في البداية أن أتقدم بجزيل الشكر والامتنان للحضور الكريم، لتكلّفهم عناءَ القدوم والمشاركة بهذا اللقاء. كما أحب أن أشكر تنسيقية باريس والقائمين عليها، لتفضلّهم بتوجيه هذه الدعوة للمشاركة بهذا اللقاء، وهو الأول لي منذ وصولي إلى باريس. وكُلّي أملٌ في هذه الأمسية، أن أشاركَ الحضور الكريم بعض الأفكار والآراء، وأن يؤدي حوارُنا إلى إغناء النقاش وتطوير الرؤية، لما فيه المزيد من التقارب والعمل من أجل تحقيق أهداف الثورة في الحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير للشعب السوري.
تدخل الثورة السورية عامها الثامن في ظل أوضاع دولية وإقليمية وداخلية غاية في الدقة والتعقيد. فإلى جانب تراجع السياسات الدولية التي تدفع باتجاه التعاون والتنمية والدمقرطة والحكم الرشيد من جهة، وصعود تيارات اليمين المتطرف وعودة الخطابات الشعبوية ومعاداة الأجانب والمهاجرين في العديد من الدول الغربية من جهة أخرى، فإن قوى الاستبداد والثورة المضادة في منطقتنا مضت قدماً في محاولتها القضاء على ثورات الربيع العربي، ومن أجل منع أي محاولةٍ جدية للتخلص من استبداد الأنظمة الحاكمة وفسادها، وللوقوف بوجه المطالب الشعبية بالتغيير وبالحياة الحرة الكريمة وبالمشاركة السياسية وبالاحتكام إلى صندوق الاقتراع كأساس للحياة السياسية.
في ظل هذه الأوضاع دخلت سورية في مرحلة جديدة استعاد فيها النظام بالتعاون مع القوات الروسية والإيرانية أغلب المناطق الخارجة عن سيطرته، واستمرت المعارضة في تفككها وعجزها عن بناء مؤسساتٍ وتحالفاتٍ تتمتع بالمصداقية والديمومة، وقادرةٍ على تمثيل تطلعات الشعب السوري في الحرية والكرامة والعدالة، وتراجع الحديث في العديد من دوائر القرار الدولية حتى عن المطالبة بتغيرات سياسية جديّة في بنية وشخوص النظام، فكيف بتغيير النظام، وباتت سورية بلداً مقسماً سياسياً وعسكرياً إلى مناطق نفوذ تتوازعها وتتلاعب بها دول إقليمية ودولية، هذا ناهيك عن الأثمان الباهظة التي دُفعت، ومئاتِ ألوف القتلى والجرحى والمختفين قسرياً، وتهجير النظام لملايين الناس، وقصفه لأبناء شعبه بالأسلحة الثقيلة والكيميائية والبراميل المتفجرة، وتدميره للمدن والقرى والبنى التحتية، في مأساة لم يعرف التاريخ الحديث مثيلاً لها.
في ظل هكذا أوضاع مأساوية ارتفعت في بعض الأوساط مقولةُ أن الثورة انهزمت، وأنه تم وأد إرادة التغيير لدى الشعب السوري، وأن النظام قد انتصر في النهاية.
لسنا هنا في معرض بيع الأوهام، أو التغني بانتصارات كاذبة، وأنا عندما قلت قبل عدة سنوات أن هذه الثورة منتصرة ولو هزمت، فإنني كنت على قناعة ولا أزال، بأن ثورات الربيع العربي وفي صلبها الثورة السورية، لا يمكن لها أن تفشل في نهاية المطاف، لأنها أتت لتدشن بداية مخاض تاريخي جذري وعميق يعيد الشعوب إلى المعادلة، ويدفع باتجاه التغيير السياسي، والمشاركة الشعبية، والاحتكام إلى صندوق الاقتراع، واستعادة الكرامة والحرية، وذلك في مواجهة النظام الرسمي العربي القائم على الدولة القمعية، وإلغاء المشاركة السياسية، والاقتصاد الريعي، والذي فشل فشلاً ذريعا في تحقيق التنمية والاستقرار، وتأمين لقمة العيش الكريم لمواطنيه.
نعم لقد خسرنا جولة من جولات الصراع من أجل الحرية والكرامة، لكننا لم نخسر المعركة ولم ننهزم. صحيح أن الثورة لم تنجح في إسقاط الاستبداد، لكنها نجحت في كسر حاجز الخوف، وفي إعادة الناس إلى السياسية، وفي نزع القداسة عن رموز النظام، وتهشيم أركان الاستبداد، وتحطيم وخلخلة أهم مرتكزاته، وهي الجيش والمخابرات، ودفعه للاستنجاد بالمحتل الأجنبي لدعمه، والحفاظ على كيانه، بحيث بات بقاؤه رهناً ببقاء قوات الاحتلال الروسية والإيرانية للدفاع عنه.
لقد أخذ البعض عليّ قولي في المقابلتين اللتين أجريتهما بُعَيْد خروجي من سورية، أن النّظام بات وهماً، وأن سوريا اليوم محتلةٌ من قوى أجنبية، وبالتالي الحلقة الرئيسية اليوم هي النضال بكافة الأشكال من أجل إخراج هذه القوى الأجنبية من أرضنا.
وظنّ البعض أن في قولي هذا تراجعاً عن ضرورة مقارعة الاستبداد وعن أهمية ومحورية نقل سورية من الاستبداد إلى الديموقراطية، لكن الذي فاتهم هو أن المسبب الأول للاحتلال والمستدعي له هو الاستبداد، وأن أولوية النضال ضد الاحتلال لا تلغي أهمية النضال ضد الاستبداد.
الفرق شاسع بين أن تقر بوقوع حادثة تاريخية وبين أن تستخلص النتائج السياسية المترتبة عليها وتعمل بمقتضاها. فأن تقر مثلاً بأن حافظ الأسد البشري مات، فهذا شيء، وأن تذكر وتنبه الناس التي تقرّ بموت حافظ الأسد البشري إلى أن وهم الدكتاتور المستأبد الذي جثم على قلوبهم وعقولهم، قد مات بموت حافظ البشري، فهذا شيء آخر ليس بالسهولة بمكان قبوله واستخلاص النتائج المترتبة عليه.
كذلك الحال، قد يكون من السهل على البعض الإقرار بأنه بات يتواجد على الأرض السورية العديد من القوى والجيوش الأجنبية المحتلة التي تتقاسم الأرضي السورية وأنها باتت تتفاوض فيما بينها في الأستانه وجنيف بمعزل عن السوريين وبالنيابة عنهم، وأن من يسمي نفسه رئيساً لسوريا لا يستطيع حتى أن يستعرض حرس الشرف إلى جانب الرئيس الروسي على الأرض السورية، لكنْ مع ذلك يبقى من الصعب عليهم بمكان الإقرار بأن هذا النظام المستأسد عليهم والجاثم على قلوبهم، بات هو الآخر وهماً وأداةً يتلاعب بها المحتل، وأن مصيره وأساس وجوده أصبحا فعلياً بيد المحتل الأجنبي.
نحن اليوم أمام وضع جديد باتت فيها سورية محتلة من قبل قوى أجنبية، وبالتالي الحلقة الرئيسية اليوم هي التحرر والنضال بكافة الأشكال من أجل إخراج هذه القوى الأجنبية من أرضنا. وبالتالي كل المسائل الوطنية الأخرى من الصعب تحقيقها والنضال من أجلها من دون أن نكون أحراراً في بلدنا. صحيحٌ أن الديمقراطية كانت ولا تزال هي العمود الفقري للقضية السورية، لكن كل القوى وكل الإمكانيات الآن ينبغي أن تنصب في المحصلة من أجل إخراج المحتل الأجنبي من أرضنا وبلدنا، فببقائه بقاءٌ للاستبداد، وبذهابه لا مكان للاستبداد بعد اليوم على أرضنا.
صحيحٌ أن شعبنا السوري ناضل في الماضي ضد الاحتلال الفرنسي، واستفادت قياداته الوطنية حينها من تناقضات دول الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن العملية الآن أعقد، لأنها لا تشمل فقط سوريا والمنطقة، ولكنها أصبحت بمثابةِ أزمةٍ دوليةٍ تخص عمق سياسات وتوازنات الدول الكبرى.
من هنا لا بد أن نعي أنه أصبح لدينا شكلان من النضال: النضال الداخلي ضد الاحتلال والاستبداد والوقوف في وجه محاولات تعويم النظام من جديد، والنضال الخارجي من أجل بناء كيانٍ معارضٍ يعبّر عن المشروعية الثورية، ويمثّل تطلعات الشعب السوري في الحرية والاستقلال والكرامة، والعمل في المجالات الدولية من أجل تحصيل أي دعم ممكن للقضية السورية، والاستفادة إلى أقصى الحدود من التناقضات التي تُمايز وتُفرّق بين أجندات القوى المحتلة، للدفع باتجاه حل سياسي يقوم على رحيل الأسد، والبدء بمرحلة انتقالية تسمح بعودة اللاجئين، وبإعادة الإعمار، وتحضّر لمجلس تأسيسي منتخَب، ينبثق عنه دستورٌ جديد، وانتخابات حرةٌ ونزيهةٌ تعبّر عن إرادة وتطلعات الشعب السوري.
من هنا فإن هناك ضرورةٌ للحركة الوطنية السورية بشخصياتها وقواها وأحزابها، ومنها حزبنا وإعلان دمشق، أن تجدّد رؤاها، وبرنامجها، وهياكلها، وشخوصها، على أرضية مراجعةٍ نقدية لمسار الثورة، وللعسكرة، ولتجربتَيْ المجلس الوطني والائتلاف الوطني. وهذا في رأيي لن يكون من صنع فردٍ أو حزبٍ، بل يجب أن يكون حصيلةَ حوار معمّق على مستوى الوطن، وحصيلةَ مسارٍ في طور التكون. وعلى كل قوة سياسية أو شخصيات وطنية أن تدلو بدلوها، وعلينا هنا أن نصغي إلى من له باعٌ وخبرةٌ في مقارعة الاستبداد، وعلينا أن نصغي إلى الشباب ونفسح المجالَ لهم للقيادة واستلام زمام المبادرة، وأن نصغي إلى الناس الذين هُجّروا وشُرّدوا.
وسيكون من الضروري ومن الأهمية بمكان في هذا السياق، أن يُراجع تيّارُ الإسلام السياسي وعلى رأسه حركة الاخوان المسلمين، الكثيرَ من مسلماتهما، ومن ممارستهما السياسية وتحالفاتهما، في ضوء تجربة سنوات الثورة، ودورهما الملتبس في العسكرة، ودخولهما في أجندات إقليمية بعيدة عن أهداف الثورة، وربما قبل ذلك.
لقد قلنا وعملنا منذ ثمانينات القرن الماضي، لكي يكون لتيار الإسلام السياسي السوري الذي يقبل بشروط اللعبة الديموقراطية السلمية مكانه الطبيعي ضمن الحركة الوطنية السورية، ليس فقط لأن للإسلاميين حيثيات اجتماعية وسياسية وثقافية حقيقية في مجتمعاتنا، ولكن لأن إلغاءهم والتخويف بهم ومنهم، كان ولا يزال دين الاستبداد وديدنه، ولأن أساس أي عملية ديمقراطية هو عدم إقصاء أي قوة سياسية تمتلك مشروعية سياسية وشعبية، وترتضي بشروط العملية الديمقراطية، وعلى رأسها عدم التنكر للمبادئ الديمقراطية في حال الوصول للحكم، واحترام الدستور وشرعة حقوق الانسان وحقوق الأقليات السياسية والدينية والاثنية.
وأعتقد بصدقٍ أن على الحركة الإسلامية السورية اليوم، أن تنتمي إلى العصر، وإلى فكرة المواطنة، وأن تندمج أكثر في المسألة الوطنية، وأن تقوم بالكثير من المراجعات السياسية والفكرية العميقة، لأن هذه المراجعات ليست مُلحّة فقط لمستقبل هذه الحركة، ولكنها ضرورية بالمجمل، لمستقبل العمل المعارض، ولنهوض الحركة الوطنية السورية من جديد.
كان الداخل السوري وسيبقى مركز ثقل العمل المعارض الوطني، وهناك أولوية اليوم من أجل التأكيد على حقنا بالعودة، والدفع والنضال لتأمين عودة آمنة وكريمة لأهلنا وشعبنا إلى مدنه وقراه وبيوته في سورية الحرة. وحيث أن اللجوء والمنفى، باتا اليوم صنواناً للعمل المعارض السوري، علينا أن نستفيد من هوامش الحرية المتاحة لنا هنا في المنفى، من أجل أن نقوم بمثل هكذا مراجعات نقدية وأن نُقرّب من وجهات النظر، ونعمل لخلق بنى ومؤسسات تكون قادرة على التعبير عن تطلعات الشعب السوري في الكرامة والحرية والاستقلال.
هناك في دوائر القرار الدولية والإقليمية، وفي صفوف الثورات المضادة، من لم يدرك بعد، ولم يَعِ حجم الزلزال الذي هزّ منطقتنا العربية، وسورية بالتحديد، وهناك من لا يزال يظن ويأمل بأن يعود الاستقرار والسكون وإعادة الإعمار إلى سورية في ظل قوى الاحتلال وتابعها المحلي: نظام الأسد. وإليهم نقول إن هذا الاستقرار، وهذا السكون، لا يشبهان شيئاً سوى صمت الموت وسكون المقابر، وأنه من المستحيل بعد اليوم أن تعود سورية مملكة للصمت والموت، لأن فيها شعباً حياً وثائراً، شبّ على تحطيم القيد، وكسر حاجز الخوف، ودَفَع أفدحَ الأثمان من أجل أن تكون سورية وطناً حراً كريماً، لا مقبرةً جماعية يقوم عليها سلطان جائر.